لا شك أن وضع العلماء والمفكرين والأكاديميين في العراق مرآة تعكس وضع الاحتلال في مجمله، وتشير لكارثة إنسانية ذات أبعاد كثيرة تجري في ظل جو من عدم الاكتراث، فقد قُتل المئات من هؤلاء العلماء واختفى مئات آخرون، وتم حرق ونهب وتدمير 84? من مؤسسات التعليم العالي بعد الاحتلال، وفيما تشير بعض الإحصائيات إلى أن 17 ألفًا من العلماء والأساتذة أُجبروا على الرحيل عن العراق منذ بدء الاحتلال، تكشف أرقام أخرى عن أن أكثر من 7350 عالما عراقيا غادروا بلدهم إلى دول أوروبية وإلى أمريكا وكندا وغيرهما.
وتشكل ظاهرة الهجرة وجهًا آخر من وجوه المحنة القاسية التي يعيشها أساتذة العراق اليوم، وتعيشها جامعاته ومؤسساته الأكاديمية، فقد بات العلماء هناك بين خيارين إما الهجرة إلى الجامعات والمعامل الأمريكية أو الإسرائيلية وغيرها (إن استطاعوا) وإطلاق الوعود بعدم تقديم المساعدة لدول أخرى، وإما التعرض لعمليات التصفية والاغتيال على يد “مجهولين”.
قبل توضيح أسباب استهداف العلماء العراقيين، تجدر الإشارة إلى عدد من الملاحظات الهامة، أولا: أن محافظات بغداد والبصرة والموصل هي أكثر المحافظات التي شهدت عمليات الاغتيال والاعتقال، ولكن لم تسلم أيضا محافظات صلاح الدين وديالى وكربلاء والنجف من الأمر، وإن كان بنسبة أقل، وثانيا: لم يكن للمذهب أو الدين الذي ينتمي إليه العالم المستهدف أي تأثير أو دلالة تذكر، فقد كان منهم الشيعي والسني، المسلم والمسيحي.
ولو حاولنا رصد الأسباب التي تقف وراء استهداف العقول العراقية، يمكن تحديد أهمها فيما يلي:
هناك عصابات إجرامية تخطف الأطباء مقابل الحصول على فدية منهم أو من ذويهم، وقد تفرض عليهم إتاوات شهرية في مقابل عدم التعرض لهم، وفي الوقت ذاته فإن هناك العديد من تلك العصابات تقوم بخطف العلماء العراقيين وقتلهم دون أن تطلب أي فدية؛ وهو ما يدل على أن هناك جهات تقف خلف هذه الاغتيالات والتهديدات والضغوطات مدعومة ليس من جهات داخلية فقط، ولكن من جهات خارجية أيضا لها أهدافها وتدفع لهم الأموال وتزودهم بالسلاح وبالخبرات المخابراتية، بما في ذلك الأفراد المدربون لهذه الأغراض.
تدرك العديد من الدول التي تستهدف العراق أنه لا يمكن لها أن تسيطر على هذا البلد ما دام فيه علماء ومفكرون، وأن مشروعه القومي لن يجهض إلا بإبادة القائمين عليه، وهم العلماء، كما أن إلغاء الميزانيات أو تقليصها وإحراق المكتبات ونهب المؤسسات التعليمية العراقية لن يؤدي هذا الغرض، ولكن اغتيال العقول هو الكفيل بذلك، وفي هذا الإطار ترددت أنباء عن وجود ميليشيات ترتبط بجهات خارجية تنفذ الكثير من الاغتيالات التي تحدث حاليا، وقد تشترك معها جهات سرية مخابراتية مرتبطة بدول إقليمية، همها السيطرة على البلاد، في محاولة لتفريغ العراق من محتواه الثقافي والعلمي، الذي يتيح الفرصة للاعتماد على النفس وعدم التبعية للغرب وقد يتعارض مع مصلحة إسرائيل والولايات المتحدة.
تمثل الأفكار التي يحملها بعض أساتذة الجامعات والأيديولوجيات التي يؤمنون بها أحد الأسباب القوية لاستهدافهم، خصوصا أولئك الذين يؤمنون بالفكر القومي والوطني، فالكثيرون ممن تم اغتيالهم لهم مواقف واضحة من القضايا الأساسية ولهم تطلعات وطنية ديمقراطية، ويحثون على احترام المؤسسات والجامعات والمعاهد العلمية وعدم التدخل في شؤونها الداخلية أو الهيمنة عليها من قبل الأحزاب السياسية ومنظماتها ومليشياتها المسلحة.
منع استقطاب العلماء العراقيين من قبل الدول العربية الأخرى والاستفادة من خبراتهم الكبيرة كل في مجال تخصصه، ومن جهة أخرى إشاعة الذعر في نفوس العلماء العراقيين والعرب الآخرين بألاّ يفكروا في الاقتراب من مجالات البحث الحساسة، وفي مقال لمارتن إنديك نشره في مجلة Foreign Affairs عام 1993 بعنوان Watershed in the Middle East أشار فيه إلى “أن الاهتمام الأمريكي بالعراق يرجع إلى أسباب رئيسية في مقدمتها الخبرة العراقية الخطيرة الكبيرة والمتراكمة في مجال التصنيع العسكري والبحث العلمي، وأن هناك آلاف العلماء العراقيين الذين يشكلون بحق مصدرا للخطر في الشرق الأوسط، قد يؤدي إلى نقل الخبرة العراقية إلى دول عربية وإسلامية أخرى”.
وقد كان واضحًا أن المرحلة التي تلت غزو العراق مباشرة، شهدت تركيزا من قبل سلطات الاحتلال الأمريكي على تعقب العلماء العراقيين الذين تشتبه بأنهم ساهموا في تطوير القدرات التسليحية والتكنولوجية للعراق، وحتى قبل غزو العراق كان هناك إدراك لذلك، ففي عام 2002 كتب مارك كلايتون” المحرر في صحيفة كريستين ساينس مونيتور يحذر من “العقول المفكرة التي تقف وراء المخزون العراقي من الأسلحة”، قائلا: “إن هؤلاء العلماء والفنيين أخطر من أسلحة العراق الحربية؛ لأنهم هم الذين ينتجون هذه الأسلحة”.
ومما لا شك فيه أن دخول العراق واحتلاله لم يكن يقلق الولايات المتحدة بقدر ما يقلقها العقل العراقي، وبالتالي فما نراه اليوم هو احتلال لتدمير العقلية العراقية، ومحاولة لأمركتها أو تصفيتها نهائيا، فبعد الضربة الجوية التي وجهتها الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق في ديسمبر 1998 توقع الكثيرون أن واشنطن تركز على طمس معالم الهوية العراقية وتشتيت أفكار علمائها، وتجلى هذا في حصارها الاقتصادي الذي دام أكثر من أحد عشر عاما، وحتى بعد سيطرة القوات الأمريكية على العراق سيطر العلماء على قائمة المطلوبين الذين تتعقبهم قوات الاحتلال، وأن العلماء هم الهدف القادم.
وقد أقر الكونجرس الأمريكي في مطلع عام 2003 قانون هجرة العلماء العراقيين الذي ينص على منح هؤلاء العلماء الذين يوافقون على تقديم معلومات (ذات مصداقية) بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة تصريح إقامة دائمة في الولايات المتحدة، وقُدمت عروض بالهجرة لجميع العلماء الذين حققت معهم فرق التفتيش الدولية قبل شن الحرب، إلا أنهم جميعا رفضوا مغادرة العراق.
ومن الملاحظ أن واشنطن أصرت في مواد القرار 1441 لمجلس الأمن على أن يتضمن بنداً حول استجواب العلماء العراقيين، وكان بالطبع لديها كشوف بأسماء هؤلاء العلماء وعناوينهم، وتردد أنه تمت مطاردتهم بعد الاحتلال واعتقال بعضهم وتهديدهم لتسليم ما لديهم من أبحاث.
وعشية احتلالها للعراق، قامت سلطات الاحتلال بطرد نحو 3000 من الأكاديميين من الجامعات العراقية، ودفعت بهم إلى البطالة والحاجة، أما في ديسمبر 2003، فخصصت الإدارة الأمريكية برنامجًا لـ ” تأهيل العلماء العراقيين” الذين عملوا في برامج التسلح العراقية، وكان الهدف المعلن من البرنامج هو الاستفادة منهم في برامج للاستخدام السلمي للطاقة، في حين أن البرنامج كانت له أهداف أخرى غير معلنة منها: تشجيع العلماء العراقيين على عدم العمل لحساب منظمات إرهابية أو دول تعتبرها الولايات المتحدة مؤيدة للإرهاب، وكذلك استغلال عدد كبير من هؤلاء العلماء من خلال ترحيلهم إلى الولايات المتحدة وإعطاؤهم الجنسية ودمجهم في مشاريع هناك.
وفيما تشير بعض التقارير إلى أن الولايات المتحدة نقلت إلى مراكز أبحاثها عددا من العلماء بالفعل، فإن هناك أنباء تتسرب عن أن الذين قرروا التمسك بالبقاء في الأراضي العراقية، إما تم الدفع بهم إلى معسكرات خارج منطقة الشرق الأوسط، في عمليات احتجاز تضمن عدم قيامهم بتسريب معلومات ومعرفة عسكرية علمية إلى جهات تصفها الدوائر الأمريكية بـ “المعادية”، أو خضعوا لمراحل طويلة من الاستجواب والتحقيقات الأمريكية والتي ترتب عليها إخضاعهم للتعذيب.
وعن الدور الإسرائيلي في استهداف علماء العراق، لا بد من التأكيد على أن تل أبيب ترى أن بقاء العلماء العراقيين أحياء يمثل خطرًا على أمنها القومي في المستقبل، وأن الخيار الأمثل للتعامل مع هؤلاء هو تصفيتهم جسديًّا، ويفضل لو تم ذلك في ظل انتشار أعمال العنف الراهنة في العراق، ليبدو الحادث وكأنه لا يستهدف العالم على وجه الخصوص.
ويكشف جنرال فرنسي متقاعد عن وجود عدد من وحدات الكوماندوز الإسرائيلي التي دخلت الأراضي العراقية بهدف اغتيال العلماء العراقيين، خشية انتقال الأدمغة العراقية إلى دول عربية وإسلامية، وتشير بعض التقارير إلى أن فرق الاغتيالات الإسرائيلية اغتالت ما يزيد على 300 من علماء وأساتذة العراق، وأن أكثر من 500 آخرين موضوعون على قوائم الاغتيال الإسرائيلية.
وبالإضافة إلى دور إسرائيل في تصفية العلماء العراقيين وملاحقتهم، توجد مخططات إسرائيلية كبيرة لاستقطاب هؤلاء العلماء وتوظيفهم ضمن المشروع العسكري الصهيوني، وقد دعا مفكرون إسرائيليون علناً إلى منح أكبر عدد من علماء العراق المناصب المهمة كي يقيموا في إسرائيل، ولعب جهاز الموساد الإسرائيلي دورا آخر عن طريق ملاحقة هؤلاء العلماء ونقلهم مع أبحاثهم إلى إسرائيل ليتم التعامل معهم في أماكن ومعسكرات سرية داخل إسرائيل بشكل يضمن تعاونهم وتنفيذهم للأوامر.
وفي دليل عملي على دور الموساد في تصفية العلماء العراقيين، وتحت عنوان “كيف حاول الموساد تصفيتي في أربيل كردستان العراق؟” يقول أ.د. كمال سيد قادر في مقالة له في مايو/ آيار 2006، “إنه كلما تحدث أحد عن إسرائيل ودورها في الاغتيالات التي تجري في العراق ضد العلماء، كان الرد من جهات مختلفة، بأن هذه الادعاءات هي من ضمن نظرية المؤامرة أو حتى من نسيج الخيال؛ لأنه -حسب قولهم- لا يوجد دليل واحد يثبت تورط إسرائيل في أعمال إرهابية في العراق”، وللبرهنة على عدم صحة ذلك يقص الدكتور كمال سيد قادر كيف أن الموساد كانت له أساليبه الخاصة لملاحقته بصورة غير مباشرة، ففي إحدى المرات استعمل الموساد أحد موظفي الصليب الأحمر الدولي في أربيل، ومرة أخرى قامت المخابرات المركزية الأمريكية بهذه المهمة نيابة عن الموساد من خلال محطتها التي كان مقرها داخل وزارة الشؤون الإنسانية في أربيل.
وينبغي أن ندرك في الوقت ذاته، أن هذا الأمر ليس بجديد على الموساد الإسرائيلي، فمنذ بدء البرنامج النووي العراقي عملت دول عديدة ومنها “إسرائيل” على تعقب العلماء العرب الذين كانت لهم صلة بتطوير هذا البرنامج، وهو ما حدث مع عالم الذرة المصري “يحيى المشد” الذي كان يعمل مع مؤسسة الطاقة الذرية العراقية، ولكن عناصر من الموساد الإسرائيلي استطاعت اغتياله في باريس في أثناء مهمة له هناك في صيف عام 1980، ونفس الأمر تم مع العالمة المصرية في مجال الأبحاث النووية “سميرة موسى”.
إن ذلك يؤكد وجود مؤامرة كبرى ضد العراق وضد المنطقة بأسرها، من خلال تفريغه من علمائه وتدمير كل وسائل البحث العلمي، حتى تضمن واشنطن وتل أبيب بعد خروجهم أن العراق لن تقوم له قائمة حتى في المستقبل البعيد، خاصة أن نهضة الأمم لا تقوم على إلا على عاتق عقولها، لذا ينبغي على كل المنظمات سواء الدولية أو الإقليمية القيام بمهمة حماية ما تبقى من علماء العراق وتوفير وسائل الحياة الكريمة لهم، من أجل وقف “نزيف العقول العراقية”، قبل فوات الأوان.
بقلم – أحمد حسين الشيمي