نقاط مضيئهمبدعون

عاطف عبد المجيد .. حين يجتمع الإبداع مع الصبر والتعفف

عاطف عبد المجيد مدرس لغة فرنسية لا يقدم على إعطاء دروس خصوصية، حتى لا تأخذه من إبداع الشعر والقصص، وترجمة روايات وكتب فكرية وأدب أطفال، وكتابة مقالات نقدية عن كتب آخرين. رغم أن عائد هذا قليل جدا، فهو يكتفي به صابرا منعففا، ليمثل نموذجا جديرا بالاحتفاء. مقال جديد للدكتور عمار على حسن نشره بصحيفة “المصري اليوم“.
كنسمة رخيّة يمضي الأديب ومربي الأجيال عاطف عبد المجيد. يعطي دون أن ينتظر شيئا من أحد، قابضا على الجائزة الكبرى، وهي المحبة، وليس هناك أكبر لمثقف الآن من أن يقيه الله شرور الإحن والأحقاد، التي تصيب نفوس الناس لمجاورة أو مجايلة.
لم أضبط عاطف عبد المجيد يوما يأتي على ذكر غيره بسوء، تشغله الكتب والقضايا والأفكار عن الأشخاص، ولسانه لا يحاول به أن يشد متقدم أو متفوق أو فائق الإمكانيات والقدرات إلى الوراء، وعينه لا تسقط في “حجاب المعاصرة” الذي يجعل البعض لا يريد أن يقر لابن جيله، أو مساره، أو كاره، أو لون إبداعه، بأن ما أنتجه أو أنجزه يستحق إشادة أو تقدير أو غبطة وامتنان، وليس حنقا أو قدحا بغير حق أو استقامة.
لم أعرف عاطف عبد المجيد وجها لوجه إلا في السنوات الأخيرة، وإن كنت أتابعه بإعجاب منذ زمن، فأقرأ له قصيدة في صحيفة أو مجلة، ثم أجد له في أخرى مقالا عن فكرة ما أو يكون نقدا عميقا لكتاب أو رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعر لأديب آخر، وأقرأ له كذلك ترجمات موزعة على منابر عربية عدة، ثم تقع كتبه في يدي بين حين وآخر.

عاطف عبد المجيد.. عمق ومحبة

وذات يوم فتحت جريدة “أخبار الأدب” لأجد له مقالا يفيض بالعمق والمحبة عن “حكايات الحب الأول” وهي متتالية قصصية لي، البعض يعتبرها عملا روائيا مختلفا جدا في الشكل. قرأت المقال بإمعان، ثم طلبت هاتف عاطف من صديق، وهاتفته لأشكره، فهو كتب عن عمل لا تربطه بصاحبه علاقة مباشرة، وهذه فضيلة تكاد تنقرض في حياتنا الثقافية تباعا، ولا يتمسك بها إلا الذين يحرصون على الانتصار لما يرونه عملا إبداعيا جيدا، ولا يتعصبون لصحبة على حساب المعنى، أو لمنفعة على حساب القيمة.

عاطف عبد المجيد ومهنة التدريس

كم راق لي أن أعرف أن عاطف عبد المجيد له مهمة عظيمة في الحياة، لا تقل جلالا عن الكتابة والترجمة التي تروم الحرية والجمال والتقدم، ألا وهي التدريس، فهو معلم للغة الفرنسية، تخرجت علي يديه أجيال. ولك أن تعرف أنه يرفض إلقاء دروس خصوصية، كغيره من المدرسين، دون أن يبخل على تلاميذه بالرد على سؤال أو استفسار أو استفهام أو تطلع إلى شيء في هذه اللغة، التي يجيدها عاطف باقتدار، ويترجم عنها بعض أنفس وأحدث الكتب الصادرة بها.
يرضى عاطف براتبه البسيط، ويضيف إليه ما يأتيه من الكتابة والترجمة وهو قليل كما تعارفنا عليه نحن أبناء هذا المسار، ضاغطا حياته عند حد من الاستغناء والتعفف والصبر، لا يجعله يمد يده لأحد، ولا يشعر في أي يوم بأن شيئا ينقصه، وهو يؤمن أن الحدب على أولاده، وتربيتهم على الاستقامة والصبر والدأب، أهم كثيرا من الإغداق عليهم بالمال.
عاطف عبد المجيد .. حين يجتمع الإبداع مع الصبر والتعفف
عاطف عبد المجيد .. حين يجتمع الإبداع مع الصبر والتعفف

السعي بين الكتب

يسعى عاطف بين الكتب، يقرأ بنهم، ثم يدع ما قرأه جانبا ليكتب عنه بشهية مفتوحة، ومحبة فياضة، يسلك دوما السبيل المستقيم إلى المعاني والأفكار والصور والمجازات، فيعيد سبك ما استقر في ذهنه من انطباعات ورؤى في عبارات دالة، محبوكة بعناية، تصل إلى الفهم من أقرب طريق.
وبينما يقبل على كتب غيره يقرأها ويكتب عنها، يختلى ليبدع، ويضيف إلى مساره الأدبي العامر كل سنة خطوات جديدة. ففي عام 1997 كان على موعد مع صدور ديوانه الأولى “بعض من قصائده” الذي رأى النور في طبعة محدودة عن جامعة أسيوط، لتتوالى دواوينه في السنوات اللاحقة: “لماذا أنت دونهم” 2001، و”سأشعل كيفما أهوى طقوسي” 2002، و”حين احتراقي تكون القصيدة” 2007، و”ترنيمات من صومعتي” 2010، و”من طينة أخرى دمي” 2013، و”من بئر الأسئلة” 2014، ثم يصدر نصوصا عام 2016 بعنوان “كأشياء عادية أكتب قصيدتي”، ونصوص مثلها عام 2020 بعنوان “ليس كمثلها أنثى”، وثالثة بعنوان “لم أعد مؤمنا إلا بي” عام 2021، ورابعة بعنوان “لماذا احتفظ بهداياك” 2023. كما أصدر ديوان شعر للأطفال عام 2019 بعنوان “أغلى حاجاتي”، وكتابا في أدب الرسائل عام 2021 بعنوان “رسائل الأيقونة الخضراء”، فمجموعة من قصص قصيرة جدا عام 2023 بعنوان “أصابع لم يرها مرة أخرى” في العام الحالي أيضا.

ترجمات عاطف عبد المجيد

وعلى التوازي توالت ترجمات عاطف عبد المجيد، فترجم خمسة دواوين شعرية هي: “شعر شارل فرديناند رامي”، و”قداس أوزة النيل” لميشيل لاجرانج، و”في غيمة شفيفة .. مختارات من الشعر الصيني” و”الثانية بعد..أم هي دائمًا الأولى؟” لمنصور مهني، و”ظلال وضوء وأيام بلا نهاية” لسلوى حجازي. كما ترجم أربع روايات هي: “رحلةُ العَمِّ مَا” لجان ديـﭭاسا نياما، و”حزن مدرسي” لدانيال بناك، و”ملك كاهل” لتيرنو مونتينمبو، و”الأمير الصغير” لأنطوان دو سانت أكسوبيري.
وترجم أيضا كتابا قصصيا لمجموعة من الكتاب صدر بعنوان “موت القائد العام”. وكان للأطفال نصيب من ترجماته، حيث “جنيات البحيرة” و”إيتولا” و”التيوس الثلاثة” و”برتقالات الحب الثلاث” و”المرآة” و”طائر النار والذئب الرمادي”. كما ترجم كتابا عبارة عن حوارات صدر بعنوان “أن تكون فنانا حرا”، وكتاب “الافكار” لجون رينار.
هكذا يمضي عاطف عبد المجيد في تأن وروية وثقة في مسارات أربعة: الإبداع الأدبي والترجمة والنقد والتدريس، يفعل كل هذا بإخلاص وتفان، موزعا محبته على الجميع، دون أن ينتظر شيئاً من أحد، ضاربا مثلا ناصعا في الدأب والتعفف والنظر إلى الحياة من زاوية السكينة والسلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى