مبدعوننقاط مضيئه

محمد عبد الوهاب .. موسيقار الأجيال

علم من أعلام الموسيقى العربية، حافظ على مكانته في الصدارة خلال 60 عام من مشواره الفني، تميز بجديته وإخلاصه لفنه، وتفانيه وفكره الموسيقي المتجدد، ودقته البالغة في انتقاء كلمات ألحانه والبحث عن كل ما هو جديد ومبتكر.

ولد موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في عام 1901م في حي باب الشعرية بالقاهرة بجوار جامع الشعراني، وحفظ القرآن الكريم وهو في سن السابعة، حيث كانت البداية عندما كان يرتل القرآن بصوته العذب فشغف آذان الناس حتى ذاع صيته وتأثر بقرّاء القرآن الكريم من أمثال الشيخ “محمد رفعت”، والشيخ “علي محمود”، والشيخ “منصور بدران”، وكان عبد الوهاب يجد تشجعا من شقيقه الشيخ “حسن” الذي كان له تأثيرا كبيرا على حياته فيما بعد، حيث كان بالنسبة له الوالد والأخ والصديق.

لم تكن حياة عبد الوهاب الأولى سعيدة، بل كانت مليئة بالصراعات بين رغباته الدفينة في حبه للغناء والطرب، وما بين رغبات الأسرة الذي كانت تريد إلحاقه بالأزهر الشريف مثل أخيه الأكبر الشيخ حسن، ولكنه تمرد على رغبة الأسرة، وسار في طريق الغناء والموسيقى، حيث كان عبد الوهاب يغني للأطفال في الحارة، وفي ذات يوم استوقفه رجل بعد أن سمع صوته وأعجب به، وكان هذا الرجل هو محمد يوسف وهو من أشهر أعضاء الكورس في الفرق التي كانت تطوف البلاد في الموالد.

وعرض محمد يوسف على عبد الوهاب أن يغني في السيرك فوافق  على الفور، واتفق معه على أن يصحبه إلى مدينة دمنهور، وذهب إلى هناك وغنى في تلك الليلة أغنية للشيخ سلامة حجازي “عذبيني فمهجتي في يديك” والتي كانت معروفة في ذلك الوقت وأعجب به الجمهور، وكانت المفاجأة أن الشيخ سيد درويش كان من بين الحضور، وفي هذا الحفل تقاضى عبد الوهاب أول أجر في حياته وهو خمسة قروش.

وعلى خشبة مسرح الكلوب المصري بحي الحسين قدم محمد يوسف عبدَ الوهاب إلى فؤاد الجزايرلي صاحب الفرقة، ونجح عبد الوهاب وظهرت له إعلانات في الشوارع وعلى الحوائط تقول: “الطفل المعجزة أعجوبة الزمان الذي سيطربكم بين الفصول محمد البغدادي”، وهو الاسم الذي اختاره محمد عبد الوهاب بديلا لاسمه حيث كان يخشى علم أسرته؛ مما اضطره إلى تغيير الاسم ووصل أجره آنذاك إلي أربع جنيهات، وبعد أن انتقل إلى فرقه عبد الرحمن رشدي أصبح يتقاضى ستة جنيهات، وكان ذلك في عام 1920م.

وانضم عبد الوهاب بعد ذلك إلى فرقة “علي الكسار” بمرتب شهري قدره عشرون جنيها، غير أن عبد الرحمن رشدي لم يلبث أن استرده وزاد أجره من خمسة جنيهات إلي 25 جنيها، وهو مرتب كبير لم يكن يتقاضاه كبار الممثلين في ذلك الوقت.

وكان عبد الوهاب يغني في فرقة عبد الرحمن رشدي بين الفصول، وفي يوم علم أن أمير الشعراء أحمد شوقي جاء خصيصا لمشاهدة مسرحية “الشمس المشرقة”، والتي كانت تقدمها الفرقة، وأراد عبد الوهاب أن يلفت نظر شوقي إليه فشدا في تلك الليلة، ولكن كانت المفاجأة أن أمير الشعراء في اليوم التالي بعث بشكوى إلى “لان رسل باشا” حكمدار القاهرة يطلب فيها منع عبد الوهاب من الغناء بسبب صغر سنه.

وفي عام 1922 سافر عبد الوهاب في رحلة فنية إلى فلسطين وسوريا ولبنان مع فرقة نجيب الريحاني، وبعد عودته قرر دخول معهد الموسيقى العربية، لكن الالتحاق بالمعهد كان يحتاج إلى مصروفات، وكان عليه البحث عن عمل لدفع تلك المصروفات، فعمل مدرسا للأناشيد بمدرسة الخازندار، وخلال العطلة الصيفية للمدرسة اشترك عبد الوهاب في حفلة غنائية كان معهد الموسيقى قد أقامها في كازينو “سان ستيفانو” بالإسكندرية، وتعتبر هذه الحفلة هي أول حفلة غنائية حقيقية يشترك فيها بعدما كان يغني على المسارح بين الفصول فقط.

وعندما انتهى وجد زميلا له يصعد إلى غرفته ويخبره بأن أحمد شوقي يريد مقابلته، وبعد تردد ذهب عبد الوهاب إلى شوقي بك، فاستقبله استقبالا حسنا، وتوطدت العلاقة بينهما وقام أمير الشعراء بصياغة الأغاني للمطرب الناشئ ، وكان أيضا يصحبه في كل مكان، ويقدمه إلى كل أصدقائه، ويساعده على تنمية معارفه الموسيقية والأدبية.

وأقام الشاعر الكبير أحمد شوقي حفلة في منزله “كرمة ابن هانئ” بمناسبة زفاف ابنه الأكبر “علي” وحضر الحفل الزعيم “سعد زغلول”، وكبار الأدباء والعلماء والساسة، وسمعوا عبد الوهاب وهو يغني، فوقفوا يتهامسون بأنه أمل الموسيقى الجديد.

وبعد أن أكمل عبد الوهاب تلحين رواية “كليوباترا” التي اقتبسها للمسرح “سليم نمله”، و”يونس القاضي” لفرقة “منيرة المهدية”، أصبح عملاق النغم الجديد “عبد الوهاب” امتدادا للعملاق الأول “سيد درويش”، وفي عام 1932م كان عبد الوهاب قد نضج واشتهر في كل أرجاء المعمورة والأقطار العربية، وذات ليلة عرض عليه صديقه توفيق المردلي الاشتغال بالسينما، وذهبا معا إلى المخرج محمد كريم مخرج جميع أفلامه.

وكانت أغاني عبد الوهاب في تلك الفترة هي “كلنا نحب القمر”، و”يا جارة الوادي”، “على غصن البان”، و”خايف أقول اللي في قلبي”، و”اللي انكتب على الجبين”، وتم اللقاء الذي أثمر عن أول فيلم غنائي للمطرب الأول في مصر، وتم إخراج الفيلم في باريس؛ لأن مصر لم يكن فيها استديو للأفلام الناطقة، وكان أجر عبد الوهاب في فيلم “الوردة البيضاء” 450 جنيها وقصة الفيلم قد اشترك في كتابتها كل من “سليمان بك نجيب”، و”محمد كريم”، و”توفيق البردنلس” وشارك أيضا عبد الوهاب بأفكاره، وقام الشاعر أحمد رامي بتأليف أغاني الفيلم من ضمنها أغنية يا “وردة الحب الصافي”، ونجح الفيلم نجاحا كبيرا، وتوالت بعد ذلك الأفلام، ومن أشهر أغاني عبد الوهاب في أفلامه:

“النيل نجاشي إجري إجري”، و “ما أحلاها عيشة الفلاح”، و”يا وبور قولي”، و”أوبريت مجنون ليلى”، “المية تروي العطشان”، و”مشغول بغيري”، و”حكيم عيون”، و”حنانك بي يا ربي”، و”انسى الدنيا”، وقصيدة “الخطايا”، و”يا قلبي مالك محتار”، كما غنى عبد الوهاب بعض الأناشيد الدينية بصوته، وكان آخر أغانيه هي “من غير ليه”.

وأخيراً فإن جهود عبد الوهاب كرائد للسينما الغنائية، وما قدمه من ألحان وموسيقى تصويرية وخواطر موسيقية بعد أن انتقل من التخت إلى الأوركسترا واتجاهه للمنهج العلمي بتقديم الموسيقى الموزعة توزيعا أوركتسراليا والإقدام على المزج بين الموسيقى العربية والموسيقى الغربية وبالأخص الموسيقى الراقصة سواء بالنقل أو التأثير أو الاقتباس فأحدث بذلك ثورة في الموسيقى العربية بصفة عامة وفي السينما الغنائية بصفة خاصة ـ كل هذا جعله يستحق لقب “موسيقار الأجيال” عن جدارة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى