“فن الأرابيسك” من الفنون الأصيلة التي تميزت بها الحضارة العربية الإسلامية، والتي تعود أصولها إلى أكثر من ألف عام، وهو – في الأصل – صناعة معمارية الطابع تدخل في الأثاث غالبا، وقد برز “فن الأرابيسك” خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين.
وظهر فنانو الأرابيسك العرب في مصر وبلاد الشام، الذين تم إيفادهم إلى اسطنبول في القرن التاسع عشر، لتزيين قصور السلاطين العثمانيين، ويروى أن عملية جلب هؤلاء الحرفيين كانت قسرية حتى أن بعضهم لم يعد إلى بلاده بعدما أنجز عمله مرة أخرى وكانوا بمثابة “أسرى فن” !
وقبل العصر العثماني، ظهر ما يسمى بـ “الفنون السلجوقية” في المنطقة العربية والتي شهدت ازدهارا كبيرا، حيث زينت أعمال “الأرابيسك” القصور والبيوت والمساجد، وامتازت أشغالها بدقة صنعة وبراعة في التنفيذ وجماليات تتواءم مع واقع المعمار في تلك الأزمنة.
وكان ازدهار فن “الأرابيسك” في تاريخ المنطقة عائدا إلى انتشار الأثرياء والسلاطين الذين كانوا يتنافسون في إضفاء التفرد على قصورهم ومنازلهم، وقد شهدت المنطقة العربية والإسلامية آنذاك مظاهر عديدة من التطور الثقافي والاجتماعي والفني خصوصا فن “الارابيسك” وفنون الموسيقى الأخرى، وانتشرت هذه الفنون في المناطق الأكثر رخاءً وتقدما كالأندلس والشام ومصر، ومن ثم برز التطور في إبداعات “الأرابيسك”.
وغلبت على معظم الأعمال الفنية الطابع الزخرفي والخطوط والحفر ورسوم النباتات عليها، فيما خلت من الرسوم الحية للكائنات البشرية والحيوانات، وتخصصت في تلك الأعمال مدن وأحياء بكاملها شكلت ما يشبه ورش العمل الفني أو المدارس التعليمية لهذا الفن، الذى بدأ في الاندثار منذ أكثر من نصف قرن.
ذوق الفنان الفطري
تبرز في “فن الارابيسك” روعة الفنون الإسلامية بأشكالها المتنوعة وانسجامها وتوافقها مع واقع البيئة الحضارية العربية والإسلامية، كما أنها تعبر في أنماطها المتنوعة عن الطبيعة الثقافية والحضارية للأماكن التى أنتجت فيها والى ميول الطبقات الاجتماعية التى كانت تستخدم هذا الفن في تزيين أثاثها وبيوتها وقصورها.
ولم يقتصر “الأرابيسك” على الأثاث بطرزه الإسلامية المختلفة الإشكال والاستخدامات فحسب، بل اتصل بتكوينات المعمار الخاص بالمساجد والقصور، فقد أنشأ فنان “الأرابيسك” جدرانا كاملة في بعض القصور، بالإضافة إلى انجازه تحفا للأعمدة وتيجانها ولمنابر المساجد، والمشربيات والنوافذ والأبواب، وأحيانا كان “الأرابيسك” يستخدم في تزيين بعض “الأنّية” ، ولكن أكثر مظاهر استخدام “الأرابيسك” ظهرت في صناعة الأثاث.
وتضفى الألوان العديدة التي يستخدمها “فن الأرابيسك” سحرا خاصا يميزه عن غيره من الفنون السائدة، حيث تظهر فيه جماليات الزخرفة وتكراراتها والخطوط وبراعة خطاطيها والرسوم الرشيقة والفطرية، وذلك لكون فن الأرابيسك يشمل فنونا مساندة كالحفر والزخرفة والخط والرسم والتعشيق والنقش والتطعيم.
ويعتمد “فن الأرابيسك” على ذوق الفنان الفطري الذي يبدع أشكالاً هندسية متداخلة، تحتاج إلى صبر ودقة عالية، ويتركز فنانو الأرابيسك حاليا في “حي الجمالية” الذي ينتمي إلى القاهرة.
عن مراحل إنتاج قطع الأرابيسك، يقول أحد رواد هذه الحرفة في مصر، وهو الحاج “محمد الصدفي”: في البداية يتم وضع التصميمات والرسومات الهندسية للأجزاء المطلوب “خرطها”، ثم تأتي مرحلة اختيار أنواع وأحجام الأخشاب الملائمة لمثل تلك الرسومات، لتشكلها كما تريد بالاستعانة بـ”المخرطة” مع تحديد مركزي القطعة الخشبية اللذين سيتم من خلالهما التثبيت على ما يسمى بـ “ذنبة المخرطة” ثم يتم تثبيت القطعة الخشبية و”صنفرتها” بصنفرة خشنة ثم صنفرة ناعمة على المخرطة.
ويضيف “الصدفي: “بعد ذلك يتم “تدبيس” ورق الكربون على “الباترونات” على أن تكون الجهة السوداء لأسفل فوق “البانوه” الخشبي و”الباترونات” أعلى ورق الكربون وفي داخل المساحة المحددة للحفر، ثم يتم طبع الشكل الموجود في الباترون على “البانوه” الخشبي، عن طريق تحديد الخطوط الخارجية للنموذج بقلم معدني.
وفي الخطوة التالية يتم الحفر إما يدوياً أو من خلال ماكينة للحفر على الخشب أوتوماتيكياً، ثم يتم مسح السطح بخفة بقطعة قماش قطيفة ويفضل “التليين” في ماء دافئ، وفي الخطوة الأخيرة يتم تغطية السطح بشمع العسل المضاف إليه زيت “التربانتين” ثم يزال الشمع عن طريق وسائد صغيرة من الصوف السميك.
وبعد الانتهاء من حفر وتشكيل القطعة الخشبية، تحتاج هذه القطعة للدهان، وهنا أمامنا ثلاثة اختيارات: إما دهانات “الإستر – الجملاكة”، وهو دهان شفاف له ملمس زجاجي لامع يساعد على إظهار جمال ألياف الخشب، أو دهانات البلاستيك أو “الورنيش” وهي سوائل سريعة الجفاف ذات تغطية عالية لامعة.
ومن الأدوات الأساسية لإنتاج مشغولات الأرابيسك : الخشب – الأبنوس والعاج – الباغ – مواد الدهان والتشطيب – ورق الصنفرة – ورق الرسم منشار أركيت – أزميل الخرط – الصنفرة – الشوكة الرندة (لخرط اللدائن والعاج والعظم) – المنقار – المفحار – البرجل الكروي (لقياس أقطار الاسطوانات والأشكال المخروطية) – البرجل المقص (لقياس الأقطار الداخلية المجوفة والمخروطة).
وتمر عملية الإنتاج بعدة مراحل تبدأ بإعداد الرسومات الهندسية للأجزاء المطلوب خرطها، واختيار نوع وحجم الخشب المطلوب، ثم التثبيت على المخرطة، وطبع التصميم على الخشب، والحفر والتشكيل، وأخيرا الدهان، ولهذا فإن “الأرابيسك” صناعة وفن في وقت معا.
هناك أساليب قديمة معروفة في عمل الأرابيسك، يعتبرها “سيد محمد”، أحد الحرفيين “أصل” الطرق المتبعة في الأرابيسك حاليا، حيث تحتاج إلى أيد عاملة ماهرة وتتلخص هذه الطريقة بعمل القطعة كاملة من قبل النجار ثم يأتي الرسام ليضع النقشة المرغوبة ثم عامل دق القصدير الذي يحفر مكاناً للخيوط القصديرية ويثبتها وبعدها يثبت عامل الصدف القطع المقطوعة حسب الرسمة ويمكن استخدام النحاس والحديد داخل الصدف لتطعيمه، كما يمكن إدخال خيوط الفضة في القطع الثمينة العالية الثمن، مما يشير إلى الجهد الكبير الذي يبذل في سبيل إخراج القطعة المزخرفة بالشكل المطلوب، والتي تحتاج إلى كتيبة عمل مكونة من فنانين من هواة هذه الحرفة ويتقنونها في نفس الوقت.
وهناك عدة أنواع من “التصديف” تختلف من أحجام الصدف أو أشكاله أو طريقة تزيينها، فهناك “التصديف العربي” و”التصديف المشجر” و”التصديف الهندسي”، وفي هذا “التصديف الهندسي” لا يتم استعمال أصداف وإنما يتميز هذا النوع بصغر أحجام القطع الصدفية التي تزين العلب.
ويستعمل “التصديف المشجر” في تزيين القطع الكبيرة مثل الصناديق، ويقصر استعماله عليها فقط، وعادة ما يتم تصدير تلك القطع إلى الخارج بأسعار خيالية نظراً لحاجة السوق الأجنبية لهذه الحرف اليدوية، ويلاقي هذا النوع من التصديف إقبالا كبيرا من السياح وخاصة العرب الذين يفضلون هذه الأشكال والأحجام عن غيرها، فيما يفضل السياح الأجانب التصديف الذي يستخدم صدفيات صغيرة ويباع لهم بأسعار باهظة.
ورغم ذلك يشتكي حرفيو الأرابيسك من رخص الأسعار بالمقارنة بالجهد المبذول في الإنتاج، حيث يتكلف المنتج اليدوي المصنوع بحرفية عالية الكثير من الأموال، كي تخرج القطعة الفنية بشكل لائق يرضي أذواق السائحين الذين يدركون قيمة هذه الأعمال على عكس ما يتصوره البعض من أن السياح يشترون مثل هذه الأعمال اليدوية دون إدراك ما بذل فيها من مجهود، ولكن ذلك لا يمنع وجود بعض السلع المصنوعة بحرفية بدائية للغاية والتي يكون مكانها في الغالب المخازن وعلى الأرصفة دون أن تباع للجمهور الواعي العاشق للفن اليدوي.
صلاح عبد الصبور