بنك المعلوماتالمجلة

المحاكاة الأحيائية.. الابتكار المستوحى من الطبيعة

المحاكاة الأحيائية | لربما كان أول “ابتكار” تعلمه الإنسان على وجه الأرض لمواجهة أول مأزق يواجهه مستوحى من أحد المخلوقات هو “ابتكار” الدفن، كتقنية تعلمها أحد ابني آدم حينما قتل أخاه “فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه”، وعلى مر السنين تعلمت المجتمعات البشرية الكثير من الابتكارات التي استوحتها من المخلوقات، وربما نتذكر كعرب ومسلمين تجربة عباس بن فرناس في الطيران، ويتذكر الغرب تصميمات ليوناردو دافنشي التي تحاكي الطيور.

أنماط المحاكاة الأحيائية

لكن تحول هذا السلوك وتلك الممارسات إلى علم، أو الأصح وصفه بالتوجه والاقتراب العلمي والتكنولوجي، هو أمر حديث النشأة في تاريخ العلم الحديث، فقد ظل المفهوم والمصطلح يتلجلج منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين بين عالم الفيزياء الحيوية أوتو شميت، والطبيب جاك ستيل، إلى أن دخل قاموس ويبستر عام 1974 في صياغته القديمة: biomimetic، ثم ظهر في صيغته الجديدة biomimicry عام 1982، لكنه لم يتبلور بشكله النهائي كمفهوم ولم يكتسب شعبيته إلا عندما نشرت عالمة الأحياء والكاتبة الأمريكية جانين بينيوس Janine Benyus كتابها “المحاكاة الأحيائية..الابتكار المستوحى من الطبيعة Biomimicry..Innovation Inspired by Nature” عام 1997. وفي مقدمة كتابها هذا تضع جانين تعريفا للمحاكاة الأحيائية يرتكز على ثلاثة أنماط:

المحاكاة الأحيائية.. الابتكار المستوحى من الطبيعة
المحاكاة الأحيائية.. الابتكار المستوحى من الطبيعة

– الأول هو ذلك العلم الذي يدرس النماذج في الطبيعة ثم يقلد أو يستلهم من تصميماتها وعملياتها ما يحل به المشكلات البشرية، وتضرب مثلا لذلك بالخلية الشمسية التي تحاكي أوراق الشجر.

– الثاني هو ذلك الذي يتخذ من الطبيعة والبيئة مقياسا ومعيارا يقيس به مدى صحة ابتكاراتنا، فبعد ثلاثة ملايين عام ونصف من عمر الأرض، نستطيع أن نتعلم من الطبيعة، ما يصلح، وما يلائم، وما يدوم.

– الثالث هو ذلك الذي يتخذ من الطبيعة مرشدا، ومن علم المحاكاة الأحيائية طريقة جديدة لرؤية وتقييم الطبيعة، تدخلنا في حقبة لا ننظر فيها للعالم الطبيغي كمنجم للاستخراج، ولكن كمعلم وملهم.

لماذا نحن بحاجة الآن لعلم المحاكاة الأحيائية؟

وفي الفصل الأول من الكتاب تحاول جانين الإجابة عن سؤال “لماذا نحن بحاجة الآن لعلم المحاكاة الأحيائية”، وهو ما يمكننا أن نلخصه في القول بأن الإنسان الصناعي Homo Industrialis قد جاوز الحد الذي تتحمله الطبيعة إن في استنزاف الموارد منها أو في إغراقها بالنفايات والملوثات، وذلك لأننا كبشر ظننا أن الأرض لنا وحدنا، وأننا الأعلى في رتبة الكائنات على الأرض، ومن ثم فمن حقنا أن نفعل ما يحلو لنا للسيطرة على الطبيعة والتحكم فيها، دون اعتبار لوجود باقي الكائنات، ودون اعتبار لمراعاة حدود الطبيعة.

البعد الآخر الذي يبرر السير في المحاكاة الحيوية هو التواضع الذي ينبغي أن نتحلى به، حيث أننا صرنا نعلم مقدار الإعجاز في كل مفردة من مفردات الخلائق، وفي العلائق بين تلك المخلوقات، وأن ذلك الإعجاز يفوق أي ابتكار بشري في كفاءته، فالكائنات تتوافق أشكالها مع وظائفها، وتؤدي وظائفها على الأرض بالقدر الأدنى من الطاقة، ودون مخلفات، وتحافظ على التنوع، وتراعي الحدود، وتكافئ التعاون، ومن ثم علينا أن نتواضع ونجلس في مقاعد التعلم من الطبيعة.

المحاكاة الأحيائية.. الابتكار المستوحى من الطبيعة
المحاكاة الأحيائية.. الابتكار المستوحى من الطبيعة

البعد الثالث الذي  أشارت إليه جانين أيضا هو أن المجتمعات البشرية للسكان الأصليين في العالم على مدار التاريخ، كانت تعيش بحكمة العلوم والتكنولوجيا التي تتوافق مع الطبيعة، وأن الحضارة الغربية هي التي أعطت – حال صعودها – ظهرها لتلك الحكمة، واصفة تلك الشعوب بالبدائية، وتلك العلوم والتكنولوجيا بالتخلف، إلى أن بدأت كوارث الحياة المعاصرة على الإنسان والبيئة تظهر فأدركت حينها مغزى وقيمة ما لدى تلك الشعوب والقبائل مما يمكن أن نتعلمه.

الاعتماد على المهارة والذكاء الاصطناعي

وفي نفس الفصل تشير جانين إلى ما قادها إلى “المحاكاة الأحيائية“، حيث تشير إلى أن التخصصات العلمية المختلفة داخل علم الأحياء علمتنا ألا ننظر للطبيعة ككل متكامل فيه من العلاقات والترابطات ما لا ينفع معه النظرة التجزيئية، وأنها لاحظت أننا نواجه نفس التحديات التي تواجه باقي الكائنات في الكون من الحاجة إلى طعام وماء ومساحة ومأوى في إطار موئل محدود، وأننا نسعى لمواجهة تلك التحديات اعتمادا على المهارة والذكاء الإنساني وحده، وأنها وجدت مساعي من علماء وباحثين من تخصصات مختلفة يعملون على الحدود ما بين تخصصاتهم وما بين المحاكاة الأحيائية، دون أن يكون هناك بلورة لموضوع المحاكاة الحيوية يتلاقى على أرضيته كل هؤلاء، حيث لا توجد جامعة، ولا مراكز بحوث، ولا حركة تدفع في هذا الاتجاه، ومن ثم كان كتابها الذي يبحث في الإجابة على أسئلة تلبية حاجات الإنسان من خلال “المحاكاة الأحيائية” والذي طبع عدة طبعات منذ نشره، والذي أسست على إثره “معهد المحاكاة الأحيائية” بالتعاون مع بريوني شوان عام 2006 ليقدم برامج لتعليم الشباب، ووحدة للتعلم من الطبيعة، ومسابقة للتصميم المستلهم من الطبيعة، وشبكة عالمية للمعنيين بالأمر، وذلك كله من أجل تمكين الناس من إيجاد حلول مستلهمة من الطبيعة من أجل كوكب صحي.

د. مجدي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى