وصلني هذا الكتاب اليوم بعد أن سعيت في الحصول عليه، والكاتب والكتاب وموضوعه لهم قصة طريفة. أما الكاتب فهو الدكتور إبراهيم رشاد هو أول نموذج (فيما أعلم) لمصري قام بتحويل المسار من الطب إلى مجالات مهنية أخرى، ولله في ذلك المسار تدابير قدرية عجيبة كأنه كان يسوقه سبحانه فيها إلى السفر إلى بريطانيا ليقضي فيها سنين عددًا، ثم إلى اتخاذ قرار تحويل المسار بعد أن بلغ السنة النهائية في دراسة الطب.
اختار إبراهيم رشاد حينئذ أن يدرس “الاقتصاد الزراعي” وتحديدًا الاقتصاد التعاوني، استجابة لبذرة وطنية غرسها فيه الرائد الأول للحركة التعاونية في مصر وهو “عمر بك لطفي”، وذلك من خلال محاضرات الأخير في نادي المدارس العليا عنها.
أما الكتاب، فقد ألفه صاحبه بعد أن أنهى دراسة النموذج الأيرلندي في التعاونيات الزراعية، والذي حصل فيها على الدكتوراه من جامعة دبلن. وتعرف فيه على رواد هذا المجال في أيرلندا، وطاف بكل أنحاء هذا البلد للاطلاع على التجربة عن كثب، ومن ثم نشر هذا الكتاب عام 1920 وسجل فيه تجربته في الطواف بأيرلندا. وأهداه إلى “الجيل الصاعد في مصر.. بلدي”.
“مذكرات الداعية التعاوني”
الرجل كانت له تجربة ثرية في مصر عند عودته، وله مؤلفات في التعاونيات الزراعية تحديدًا، عندما كانت هناك في مصر تجربة تعاونية “حرة” حتى عده المؤرخون “الرائد الثاني للتعاونيات في مصر”، وظل وفياً لقضيته، حتى بعد أن تحولت التعاونيات إلى “خيال مآتة” باهت تحت السلطان الحكومي الكامل الذي استلب من التعاونيات أعز ما تملك وهو “حريتها وطوعيتها”، ومن ثم ألف كتاباً أخيراً صادراً عن مكتبة الأنجلو المصرية يحمل اسم “مذكرات الداعية التعاوني” على ما أتذكر.
ولو كنا في بلد تعنى بالرجال الذين سعوا لنهضة مجتمعها، لكان هناك احتفاء مستحق بالرجل وتراثه الفكري، وبعث لما عاش من أجله هو ومن سبقوه ممن وضعوا لبنات الحركة التعاونية، كأحد أدوات النهضة.
المهم أنني بحثت عن الكتاب على جوجل مرتين، في المرة الأولى عثرت على نسخة قديمة منه تباع بسعر مبالغ فيه. ثم عثرت في المرة الثانية على نسخة سعرها معقول، يعرضها بائع كتب “هندي” لديه موقع إلكتروني شبيه بأمازون، ومن ثم استغرق وصول الكتاب من الهند إلى بريطانيا “على الناقة” شهراً.
الكتاب سبق أن قدم ترجمة موجزة له الكاتب الراحل صالح جودت، وذلك من خلال سلسلة “كتاب الهلال” وللأسف لم تأتني الفرصة للبحث عنه في سور الأزبكية.
المسيرة العجيبة لحياته
“ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها”, الكلمة الطيبة، هي كل كلمة تنفع الناس في دنياهم وأخراهم، وبكلمة من هذا الصنف تكلم عمر بك لطفي يوما في “نادي المدارس العليا” عام 1908 عن التعاونيات كحل لمشكلات الزراعة وصغار المزارعين في مصر، وعن التجربة الأوروبية عامة والإيطالية خاصة في هذا المجال، فسمعه طالب كان يدرس الطب في مصر في ذلك الحين، فبقيت الكلمة الطيبة بذرة أو غرسا بضع سنين إلى أن أذن الله لها أن تثمر وأن يتغير مسار حياة ذلك الطالب ليكون هو الدكتور إبراهيم رشاد الرائد الثاني للتعاونيات في مصر، وأول من حصل على الدكتوراه في الاقتصاد التعاوني من بريطانيا، فكيف كان التحول وماذا كان الإنجاز؟
التحول من الطب إلى الزراعة
ولد إبراهيم رشاد عام 1886 في حي السيدة زينب بالقاهرة، تلقى تعليمه في مدرسة محمد علي الابتدائية وتتلمذ على يد ناظرها حسن صبري بك، ثم التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية وتتلمذ فيها على يد الشيخ طنطاوي جوهري والشيخ أحمد سلامة، وهؤلاء جميعاً من تلامذة الشيخ محمد عبده، وحصل على البكالوريا عام 1906، والتحق بمدرسة الطب وفقا لرغبة أهله، وارتبط في المدرسة بأربعة من شباب الحزب الوطني والذين صاروا جميعا أعضاء بـ “نادي المدارس العليا”، ونظرا لاشتغالهم بالعمل السياسي وترصد ناظر مدرسة الطب الإنجليزي لهم، مما تسبب في رسوبهم عامين متتاليين، اضطر والده أن يرسله إلى لندن لاستكمال دراسته الطبية، حيث واصل فيها تعليمه حتى منتصف السنة النهائية، فلما قامت الحرب بين الدولة العثمانية ودول البلقان سافر في بعثة طبية بريطانية لعلاج جرحى الحرب، لكنه أصيب مع نهاية الحرب بالتهاب في الغشاء المخاطي للأمعاء، ولم يستطع الأطباء علاج حالته فظل مريضا فترة طويلة، وفي إحدى جولاته الاستشفائية تعرف على عميد كلية الزراعة في سيرنستر، والذي أقنعه بالالتحاق بكلية الزراعة بدلاً من استكمال ما تبقى له من دراسة الطب، وبالفعل حصل على دبلوم الزراعة العليا من الكلية، وخلال دراسته تعرف على أحد الأساتذة الهنود من رواد التعاونيات في الهند، ثم حصل على بكالوريوس العلوم الطبيعية من جامعة بريستول، ثم التحق بكلية سانت كاترين بجامعة كمبريدج لدراسة الاقتصاد السياسي، ومنها إلى جامعة أيرلندا ليحصل منها على الدكتوراه في الاقتصاد الزراعي.
الحركة التعاونية
وخلال دراسة إبراهيم رشاد للاقتصاد السياسي في كمبريدج تعرف على الأستاذ فاي كبير التعاونيين الجامعيين، والذي عمق له اهتمامه بالاقتصاد التعاوني، وعاون التلميذ أستاذه على إخراج الطبعة الثانية من كتابه “التعاون داخل البلاد وخارجها، واقتضى ذلك منه زيارة التعاونيات في طول البلاد وعرضها، والتردد على المكتبات لجمع المادة، واستغرقت تلك المهمة منه ستة أشهر، وخلال مرحلة دراسته بأيرلندا تعرف رشاد على رائد الحركة التعاونية فيها هوريس بلانكت، فطاف معه أنحاء أيرلندا ليطالع عن كثب الحركة التعاونية فيها وفي ريفها خاصة.
النهوض بالتعاونيات فى مصر
وفي عام 1920 عاد رشاد إلى مصر، حيث عمل بتدريس مادة التعاون الزراعي في مدرسة الزراعة العليا، كما درس مادة التعاون كجزء من مقرر الاقتصاد لطلبة كلية الحقوق، وقد طاف بالبلاد ليقيم ما تبقى من الحركة التعاونية بعد وفاة مؤسسها عمر لطفي، ووضع أهم المراجع في “التعاون الزراعي” من جزئين عامي 1926 و1935، والذي وضع فيه تصوره للنهوض بالتعاونيات في مصر، وقد ساهم في وضع تشريعات التعاون لعامي 1923 و1927 والذي قبل بعده إبراهيم رشاد رئاسة مصلحة التعاون لكنه اشترط لقبول المنصب شرطان أولهما أن يكون ذلك القسم مؤقتا حتى تستوي الحركة على عودها ويتسلم الاتحاد التعاوني قيادة الحركة، كون التعاونيات بالأساس حركة أهلية حرة، ثانيا أن تطلق يده في تنظيم القسم واختيار موظفيه وتدريبهم، وحينما تسلم رشاد مهام منصبه اجتهد في اتخاذ كافة السبل الكفيلة بالنهوض بالتعاونيات مرة أخرى وذلك من خلال العديد من الوسائل والإجراءات، منها:
الدعوة والتوجيه التعاوني من خلال تكوين جمعات تنظيمية من الرجال المؤمنين بالتعاونيات والراغبين في نشر مبادئها، ومن خلال فتح مدارس ليلية ونهارية لتعليم الراغبين مبادئ التعاون وأساليب إدارة مؤسساته، ومن خلال نشر الكتب والمجلات والنشرات والمقالات، ومن خلال المساعدة في قيام الاتحادات التعاونية الأولى، ومراجعة حسابات التعاونيات وتنظيم التفتيش عليها، وتوجيهها وإرشادها، ومن خلال توفير القروض لها، ومن خلال تنظيم المقاومة الجماعية للآفات، والميكنة والنحالة والتسويق التعاوني ومن خلال تيسير تسجيل الجمعيات الجديدة وشهرها، وأخيرا من خلال العمل على تأسيس بنك التعاون العام والذي قامت الحكومة بالتعسف معه وحله عام 1946، وهو العام الذي أحيل فيه رشاد إلى المعاش، وفي ذلك يقول:
“استطعت في خلال هذه السنين بعون الله أن أبعث الحركة التعاونية بعد ممات، وأن أنشر مبادئها الشعبية في الريف والحضر حتى أصبح لها جمهور شعبي كبير ينتظم في أكثر من 3000 جمعية تمتد في طوال الوادي، كما أسست بنكا تعاونيا في القاهرة، بنك التعاون العام – انتهى بمأساة بعد تركي الحكومة – وعددا من الاتحادات التعاونية في مراكز المحافظات، وكنت جادا في استكمال هذه الاتحادات تمهيدا لإنشاء الاتحاد التعاوني العام الذي ينضم إلى الاتحاد الدولي“.
تأسيس الاتحاد التعاوني
لم يتوقف جهاد الداعية التعاوني إبراهيم رشاد بعد المعاش فقد انتقل إلى الدقهلية ليساهم في تأسيس الاتحاد التعاوني بالسنبلاوين، ويصدر مجلة الرسالة التعاونية ويركز في أعمال المؤتمرات التعاونية ويعيد التأكيد على دعوته لإنشاء بنك تعاوني وإنشاء مزارع تعاونية، وظل وفيا لدعوته التعاونية حتى وافته المنية عام 1975. وكما هو معروف فقد انحدرت الحركة التعاونية بعد انقلاب يوليو 1952، بسبب سعي النظام الحاكم لتأميم حركة الناس في المجتمع والاستحواذ على مفاتيح الثروة والسلطة فيه، لكن الشباب الذي يسعى هذه الأيام لتفعيل التعاونيات بالرغم من قلته ومحدودية حركته يبعث الأمل في إمكانية “بعث” الحركة بعد مواتها، وإن كان يحتاج في ذلك إلى:
– تكثيف نشاطه في الدعوة التعاونية، حيث غابت التعاونيات عن وعي أجيال متتالية من الشعب المصري.
– استعادة تراث تاريخ الحركة في مصر وأدبياتها وتراجم أعلامها خاصة في الفترة ما بين عامي 1908 – 1952، كي تكون جزءا من مادة بث الوعي.
– الاستفادة من خبرات النماذج المثلى للتعاونيات على مستوى العالم في وقتنا الحالي، كي تكون جزءا آخر من أدوات بث الوعي.
– الاستفادة من إمكانات الإنترنت في تكوين مكتبة إلكترونية لأدبيات التعاون (تراثها في مصر، ونماذجها حول العالم).
– المبادرة بتأسيس تعاونيات صغيرة تضم المؤمنين بالحركة ومبادئها، كي تكون دماء جديدة تضخ في الجسد المتهالك للتعاونيات في مصر.
د. مجدي سعيد