حضارة إسلاميةالمجلة

إحياء الفنون الإسلامية في بيت السناريترميم المنابر

لا تكاد توجد قيمة جمالية فوق الاندثار إذا لم تجد من يتعهدها.. وإذا لم تصادف بشرا يضيفون إليها. والفنون الإسلامية التقليدية بوجه عام مرت بفترات ازدهار أعقبتها فترات ركود طويلة كادت أن تحول هذه الفنون إلى أثر بعد عين.

وفي إطار الجهود التي تبذل في أماكن عديدة على امتداد الوطن العربي والبلدان الإسلامية، تأتي مدرسة “تأهيل الفنان المسلم” بيت “السناري” بالقاهرة في مقدمة هذه الجهود التي تهدف إلى إحياء الفنون الإسلامية والحفاظ عليها.

و”بيت السناري” هو أحد الأبنية الأثرية المملوكية في القاهرة بالقرب من مسجد السيدة زينب، شيده في هذا المكان “إبراهيم السناري” الذي وفد القاهرة المملوكية من بلدة دنقلة بالسودان، واستطاع في سنوات معدودة أن يلفت غليه أنظار أمراء المماليك وسلاطينهم، وحصل على لقب “كتخدا” وهو ما يساوي منصب محافظ هذه الأيام.

من خلال منصبه استطاع إبراهيم السناري أن يجمع ثروة طائلة مكنته من تشييد هذا البيت على الطراز المعماري المملوكي.

وبيت “السناري” -كما يقول عبدالمحسن عطية أحد المعنيين بالحرف الأثرية بالقاهرة- مكون من طابقين.. كل طابق به فسقية من الرخام موشاة بزخارف محفورة على الفسيفساء، ونوافذه من خشب الأرابيسك.

وكان “بيت السناري” في طريقه لأن يصبح واحدا من بيوت كثيرة تم إهمالها.. ولكنه دخل تاريخ مصر الحديث مع مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، فقد وقع عليه اختيار نابليون بونابرت عام 1798م ليكون مقرا لعلماء الحملة الذي سارعوا إلى مسح مصر مسحا شاملا أسفر فيما بعد عن هذا الجهد العلمي الرائد المسمى “وصف مصر”.

وبعد جلاء الفرنسيين عن مصر أصبح البيت في بؤرة الاهتمام، ثم ما لبث الإهمال أن طاله وكاد أن يتحول إلى أطلال لولا أن اهتمت به هيئة الآثار بعد ثورة 1952م، وفي عام 1966م قررت الهيئة إنشاء مدرسة “تأهيل الفنان المسلم” في بناء ملحق ببيت السناري، وذلك للحفاظ على المهن والحرف الأثرية التي أوشكت على الانقراض.

يضيف الفنان عبدالمحسن عطية: ضمت المدرسة في البداية أربعة أقسام: النحت على الحجر، والنجارة العربية (الأرابيسك)، والجص المعشق بالزجاج الملون، والرخام.

بعد ذلك تم تطوير المدرسة إلى معهد، بتدعيم قسم النجارة بأفرع مكملة له، مثل فرع الخط العربي والمشربيات البرافانات والتطعيم بالصدف، كما أضيف إلى المعهد قسم لزخرفة النحاس وآخر للسجاد اليدوي.

وخريجو المعهد يقدمون خدمة عالية القيمة للآثار الإسلامية، فهم يقومون بترميم القطع الأثرية القديمة في المساجد والبيوت الأثرية مثل الشبابيك والأبواب والمنابر والأثاثات وغيرها، وهناك آثار عديدة قام المعهد بترميمها كان آخرها منبر مسجد قايتباي الرماح، ومنبر مسجد السيدة زينب، وبيت السحيمي، ومنزل زينب خاتون وبيت الهراوي.

رسالة لا تقدر بثمن

بعد مجيء العثمانيين إلى مصر.. عادل سليم الأول إلى تركيا بعد أن جرد مصر من معظم صناعها المهرة في العديد من الحرف.. وبعد تولية محمد علي عرض مصر، وتحت ضغط الحاجة إلى تأسيس دولة حديثة أصبحت الحاجة ملحة للصناع المهرة.. ورغم ذلك ظلت هذه المهن تشهد ازدهارا يعقبه أفول طويل، حتى اندثرت العديد من الحرف الفنية.

ويؤكد الأسطى سعيد الجوهري ان الصناعات النادرة كانت من الأسرار التي لا يبوح بها الصانع إلا لأولاده فقط، وقد ظلت بعض الصناعات الدقيقة مقصورة على عائلات بعينها حتى تم افتتاح مدرسة بيت السناري التي عملت على إعداد وتأهيل من نجد لديه الاستعداد والموهبة.. وهذا الدور الذي تقوم به المدرسة من شأنه أن يحافظ على هذه الحرف الإسلامية من الاندثار.

ويقوم المسؤولون في المعهد بإعطاء التلاميذ أجورا لتشجيعهم على مواصلة التعلم واكتساب المهارات وحب الصنعة، حتى يتخرج الواحد منهم فنانا يقدم للعالم تحفا تبهر العقول وتسر العيون والنفوس، ولذلك فنحن نشعر أننا نؤدي رسالة جليلة لا تقدر بثمن، لأننا نحافظ على تراث أمتنا الإسلامية.

ومن داخل قسم النحاس أو النقش على المعادن.. وبين الزخارف الزاهية الجميلة، يشرح لنا الأسطى محمد حسن مراحل تصنيع النحاس حتى يصبح قطعة فنية مبهرة.. يقول:

نحصل في البدء على ألواح النحاس الخام، ونقوم بتقطيعها حسب المقاسات المطلوبة، ثم ننقش عليها الزخارف المختلفة سواء كانت نباتية أو هندسية أو مناظر طبيعية، وغيرها من الأشكال التي يتم نسخها أو تقليدها وهي جميعا مستوحاة من التراث الإسلامي.

وعن كيفية حصول السائح على هذه المنتجات قال محمد حسن: إذا رأى السائح قطعة أثرية في المتاحف أو الأماكن الأثرية الأخرى وأراد أن يحصل على صورة طبق الأصل منها، فبإمكاننا عمل نموذج من الشكل الحقيقي.. ولدينا منافذ مختلفة لبيع تلك المستنسخات الأثرية مثل مركز تسجيل الآثار بالزمالك والأماكن السياحية والمزارات المختلفة.

وخلال تجولنا في بيت السناري لاحظنا وجود قسم خاص بالرسم على النسيج يتبع مركز بحوث الفنون التقليدية، ويقوم هذا القسم بإنتاج الستائر والسجاجيد والفرش المختلفة بتصميمات في غاية الرقة والجمال.

وهذا القسم يهدف إلى محاولة التقريب بين التراث الفني القديم والذوق المعاصر والتواصل الحضاري من خلال تصميمات الرسم على النسيج والمنتجات النفعية في حياتنا.

وهكذا يقوم بيت السناري بمد جسور التواصل بين الأصالة والمعاصرة.. والحفاظ على تراث جميل قادر على إضفاء البهجة إلى حياتنا لو تعلمنا كيف نحميه من الاندثار.

عاطف مظهر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى