إعادة القراءة: بحث الشغف بالأدب
القراءة مـتعة كبيرة وفائدة لا يختلف حولهما اثنان. ولا شكّ أيضًا، أن إعادة القراءة نفسها لا تقلّ متعة وفائدة لمن يقوم بها. ذلك أنه في كلّ مرّة تنفتح آفاق جديدة. وليس قليل عدد أولئك الذين يتحدثون عن عبقرية القراءة و«إعادة القرّاء». وليس قليل أيضًا عدد أولئك الذين اختاروا هذا الكتاب أو ذاك كي يكون رفيق خلوتهم الدائم، وربما أعادوا قراءته مرّات ومرّات.
وفي السياق الحالي الذي يتسم بزحف كبير للإعلام المرئي، التلفزيوني خاصّة، ولوسائل التواصل الاجتماعي المختلفة وما تنتجه من ثقافة اللحظة الحاضرة وزمن السرعة والتسارع في إيقاع الحياة، صدر كتاب لـ”لورا مورا”، المؤرّخة للأدب والثقافة وأستاذة الأدب والدراسات الفرنسية في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس بالولايات المتحدة، يحمل الكتاب عنوان: «إعادة القراءة» مع عنوان فرعي هو «بحث الشغف بالأدب»..
تنطلق المؤلفة في تحليلاتها من تجربة شخصية مفادها أنها شاهدت، عندما كانت في الثامنة عشر، عملا مسرحيًّا في عام 1987 ثم شاهدته من جديد بعد 25 عامًا عام 2011. وكانت مفاجأتها الكبرى أنها رأت فيه أشياء جديدة كثيرة بعيدة عن الأحكام التي كانت قد كوّنتها عند المشاهدة الأولى.
وإعادة القراءة غدت من ثم بمثابة مسألة فهم وإدراك بعيدًا عمّا يتكوّن لدى البشر من قناعات. وبهذا المعنى تكتب المؤلفة: «لم أكن طالبة ملتزمة في حياتي». وهي لا تتردد في أن تعيد على مسامع طلاّبها أنه لا يكفي تلقي المعلومات بل ينبغي أن يعيدوا هم أنفسهم قراءة الأشعار والروايات والدراسات، ذلك أنهم يتعرّفون أنفسهم على معاني النصوص وما تعنيه لهم».
تعتمد مؤلفة هذا العمل في تحليلاتها لواقع القراءة على تحقيق «ميداني» قامت به في مترو مدينة باريس. في هذا المكان التي يتم توصيفه عادة أنه بعيد عن الإنسانية، حسب توصيفها، لتراقب أولئك الذين يقرأون… و«هم كثر».
إنها تولي اهتمامها لـ«قرّاء المترو» وتقدّم توصيفًا لهم في تلك الأجواء التي تغدو فيها القراءة «نوعًا من التعبير عن بعد اجتماعي يربط بينهم». بكل الأحوال تريد المؤلفة أن تقوم بنوع من «الجرد» لنوعية الكتب التي يقرأها الذين يستخدمون المترو كوسيلة نقل «عبر التعرّف على تلك الكتب عبر استراق النظر من فوق الرؤوس والأكتاف».
وبالتوازي مع ذلك تلجأ «لور مورا» للتوجّه إلى شريحة أخرى من أولئك الذين تصفهم بـ«القرّاء الكبار.. ومن ثم الذين يعيدون قراءة ما كانوا قد قرأوه سابقًا». هكذا يضم الكتاب عشرات المقابلات التي أجرتها المؤلفة مع مؤلفين وصحافيين وكتّاب وممثلين وغيرهم ممن تستهويهم بالتعريف «صحبة الكتب» و«عالم القراءة».
ومع هؤلاء جميعًا تطرح المؤلفة السؤال التالي: لماذا تعاد قراءة ما كان قد قُرأ سابقًا؟. وسؤال آخر: ما هي الأعمال التي تعاد قراءتها؟. وسؤال هو في أصل السؤالين السابقين بالنسبة للمؤلفة التي تجد فيه السبب الرئيسي لتحرير هذا العمل. السؤال مفاده: لماذا يتم الاحتفاظ بالكتب إذا لم يكن القصد من ذلك هو «إعادة قراءتها مرّة أخرى؟».
وفي جميع الحالات تؤكّد المؤلفة على متعة وأهميّة «ليس القراءة فحسب، لكن أيضًا وخاصّة، إعادة القراءة». وهي تجد مرجعيتها لدى أولئك القرّاء الكبار الذين أجرت حوارات معهم. كما تجد مرجعيتها لدى كتّاب وأدباء نالوا شهرة كبيرة، وليس أقلّهم شأنا «اوسكار وايلد»، الكاتب البريطاني الشهير.
وتنقل عنه ما مفاده «إذا لم يجد المرء متعة قراءة كتاب وإعادة قراءته، فإنه ليس هناك أيّ فائدة حتى بقراءته ولو لمرّة واحدة». ويضيف ما تعده المؤلفة تأكيده على الأهمية الجوهرية والأساسية لإعادة القراءة، حيث إنها بالنسبة له هي «المعيار الأساسي لما هو أدب… أو ليس أدبًا».
ومما يُنقل عن الكاتب والناقد الفرنسي الكبير: رولان بارت تأكيده أن إعادة القراءة «لم تعد نوعًا من الاستهلاك. ولكنها هي الوحيدة التي تنقذ النصّ من التكرار. ذلك أن أولئك الذين يهملون إعادة القراءة يرغمون أنفسهم على قراءة القصّة نفسها في كل مكان».
ولم يتردد غوستاف فلوبير مبدع رواية «السيدة ــ مدام ــ بوفاري» الشهيرة أن يعلن ذات مرّة «إنني أعيد قراءة رواية دونكيخوتة.(…).الدهشة تستأثر بي. وأصبحت متعلّقًا إلى حد الجنون بإسبانيا. أي كتاب هذا! أي كتاب هذا!». وما تؤكّده لور مورا هو أن فلوبير ظل مأخوذًا طيلة حياته بالكاتب «سرفانتس» ولم يتوقف حتى نهاية أيامه عن إعادة قراءة «رائعته».
في المحصّلة النهائية، لا تتردد لور مورا في التأكيد بأشكال مختلفة، بالاعتماد على اللقاءات التي أجرتها مع «كبار القارئين»، أن «إعادة القراءة» هي بمثابة «هوى أدبي عميق» يعيشه الذين يمارسونه في أغلب الأحيان «في أثناء ساعات خلوتهم» بعيدًا عن أنظار الجميع. والإشارة أنهم يحسّون في أحيان كثيرة أنهم مثل الأطفال «الذين يطالبون كل مساء بالاستماع إلى الحكاية نفسها».
الكتاب تجمع فيه مؤلفته بين التحقيق الميداني واللقاءات المباشرة والدراسة الأدبية التاريخية واستقراء الذاكرة من حلال العودة إلى الكثير من الأعمال الكبرى والمبدعين الكبار الذين احتلّوا باستمرار زاوية من مخيلة و«قلب» الذين أحبوا القراءة وعشقوا الأدب، هذا وبحيث إن القارئ يجد نفسه في «حضرة التاريخ» من زاويته الأدبية الباهرة.
وتحدد المؤلفة ــ المؤرّخة القول: «إن لإعادة القراءة أسبابها العديدة وفوائدها الكثيرة، وليس أقلّها أنها «تتضمّن إعادة تفسير دور»، و«تتقصّى ما يمكن أن يحتويه النص من أخطاء»، و«التحقق من صحّة المعلومات المقدّمة» و«التمتع من جديد بالمتعة التي قدّمتها القراءة الأولى». وبهذا المعنى تتحدّث المؤلفة عن أن كل إعادة قراءة هي أيضًا «قراءة جديدة».