ولد علي بن أبي الكرم محمد بن محمد المعروف بعز الدين علي بن الأثير بجزيرة ابن عمر قرب الموصل بالعراق عام 1160م. عني أبوه بتعليمه، فحفظ القرآن الكريم، وتعلم مبادئ القراءة والكتابة، ثم استكمل دراسته بالموصل بعد أن انتقلت إليها أسرته، وأقامت بها إقامة دائمة.
سمع الحديث من أبي الفضل عبد الله بن أحمد، وأبي الفرج يحيى الثقفي، وتردد على حلقات العلم التي كانت تُعقد في مساجد الموصل ومدارسها. وكان ينتهز فرصة خروجه إلى الحج، فيعرّج على بغداد ليسمع من شيوخها الكبار، من أمثال أبي القاسم يعيش بن صدقة الفقيه الشافعي وأبي أحمد عبد الوهاب بن علي الصدمي. رحل إلى الشام وسمع من شيوخها، ثم عاد إلى الموصل ولزم بيته منقطعا للتأليف والتصنيف.
درس ابن الأثير في رحلاته هذه الحديث والفقه والأصول والفرائض والمنطق والقراءات لأن هذه العلوم كان يجيدها الأساتذة المبرزون ممن لقيهم. غير أنه اختار فرعين من العلوم وتعمق في دراستهما هما: الحديث والتاريخ، حتى أصبح إماماً في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به، حافظاً للتواريخ المتقدمة والمتأخرة، خبيراً بأنساب العرب وأيامهم وأحبارهم، عارفًا بالرجال وأنسابهم لا سيما الصحابة. وعن طريق هذين العلمين بنى ابن الأثير شهرته في عصره، وإن غلبت صفة المؤرخ عليه حتى كادت تحجب ما سواها. والعلاقة بين التخصصين وثيقة جدا. فمنذ أن بدأ التدوين ومعظم المحدثين العظام مؤرخون كبار، مثل الإمام الطبري، الذي جمع بين التفسير والفقه والتاريخ، والإمام الذهبي الذي كان حافظا متقنا ومؤرخا عظيما. وكذلك كان الحافظ ابن عساكر بين هاتين الصفتين..
توافرت لابن الأثير المادة التاريخية التي استعان بها في مصنفاته، بفضل صلته الوثيقة بحكام الموصل، وأسفاره العديدة في طلب العلم، وقيامه ببعض المهام السياسية الرسمية من قبل صاحب الموصل، ومصاحبته صلاح الدين في غزواته ومدارسته الكتب وإفادته منها، ودأبه على القراءة والتحصيل. ثم عكف على تلك المادة الهائلة التي تجمعت لديه يصيغها ويهذبها ويرتب أحداثها حتى انتظمت في أربعة مؤلفات، جعلت منه أبرز المؤرخين المسلمين بعد الطبري. وهذه المؤلفات هي:
– الكامل في التاريخ، وهو في التاريخ العام.
– التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، وهو في تاريخ الدول. وقصد بالدولة الأتابكية الدولة التي أسسها عماد الدين زنكي في الموصل سنة 521هـ / 1127م وهي الدولة التي عاش في كنفها ابن الأثير.
– أسد الغابة في معرفة الصحابة، وهو في تراجم الصحابة.
– اللباب في تهذيب الأنساب، وهو في الأنساب.
بذلك يكون ابن الأثير قد كتب في أربعة أنواع من الكتابة التاريخية، وسنتعرض لاثنين منهما بإيجاز واختصار.
الكامل في التاريخ
هو تاريخ عام في 12 مجلدًا، عالج فيه تاريخ العالم القديم حتى ظهور الإسلام، وتاريخ العالم الإسلامي منذ ظهور الإسلام حتى عصره. والتزم في كتابه بالمنهج الحولي في تسجيل الأحداث. فهو يسجل أحداث كل سنة على حدة، وأقام توازنًا بين أخبار المشرق والمغرب وما بينهما على مدى سبعة قرون وربع قرن. وهذا ما أعطى كتابه طابع التاريخ العام أكثر أي تاريخ عام لغيره. وفي الوقت نفسه لم يهمل الحوادث المحلية في كل إقليم وأخبار الظواهر الجوية والأرضية من غلاء ورخص وقحط وأوبئة وزلازل.
لم يكن ابن الأثير في كتابه ناقل أخبار أو مسجل أحداث فحسب، وإنما كان محللاً ممتازاً وناقداً بصيراً، حيث حرص على تعليل بعض الظواهر التاريخية ونقد أصحاب مصادره، وناقش كثيراً من أخبارهم. فالكتاب مليء بالنقد السياسي والحربي والأخلاقي والعملي.
تعود أهمية الكتاب إلى أنه استكمل ما توقف عنده تاريخ الطبري في سنة 302هـ وهي السنة التي انتهى بها كتابه. فبعد الطبري لم يظهر كتاب يغطي أخبار حقبة تمتد لأكثر من ثلاثة قرون. كما أن الكتاب تضمن أخبار الحروب الصليبية مجموعة متصلة منذ دخولهم. كما تضمن أخبار الزحف التتري على المشرق الإسلامي منذ بدايته في سنة 616هـ/ 1219م. وقد كتب ابن الأثير تاريخه بأسلوب نثري مرسل لا تكلف فيه، مبتعداً عن الزخارف اللفظية والألفاظ الغريبة، معتنياً بإيراد المادة الخبرية بعبارات موجزة واضحة.
أُسْد الغابة
موضوع هذا الكتاب هو الترجمة لصحابة الرسول الذين حملوا مشعل الدعوة، وساحوا في البلاد، وفتحوا بسلوكهم الدول والممالك قبل أن يفتحوها بالطعن والضرب. وقد رجع ابن الأثير في هذا الكتاب إلى مؤلفات كثيرة، اعتمد منها أربعة كانت عُمُدًا بالنسبة له، هي: “معرفة الصحابة” لأبي نعيم، و”الاستيعاب في معرفة الأصحاب” لابن الأثير، و”معرفة الأصحاب” لابن منده، و”الذيل على معرفة الأصحاب” لابن منده أيضاً.
اشتمل كتاب أسد الغابة على ترجمة 7554 صحابياً وصحابية تقريبا، يتصدره توطئة لتحديد مفهوم الصحابي. والتزم في إيراد أصحابه الترتيب الألفبائي، فيبتدئ ترجمته للصحابي بذكر المصادر التي اعتمد عليها، ثم يشرع في ذكر اسمه ونسبه وهجرته إن كان من المهاجرين، والمشاهد التي شهدها مع الرسول إن وجدت، ويذكر تاريخ وفاته وموضعها إن كان ذلك معلوما. وقد طبع الكتاب أكثر من مرة.
ظل ابن الأثير بعد رحلاته مقيما بالموصل، منصرفا إلى التأليف، عازفاً عن المناصب الحكومية، متمتعاً بثروته جاعلاً من داره ملتقى للطلاب والزائرين حتى توفي. وابن الأثير هذا هو أحد الإخوة الثلاثة الذين عملوا في الفقه والأدب والتاريخ. الآخران هما: مجد الدين المبارك بن محمد (1149-1210م) الذي ألف “النهاية في غريب الحديث والأثر” و”جامع الأصول لأحاديث الرسول”. والثاني ضياء الدين نصر الله (1162- 1239م) الذي عمل وزيراً للملك الأفضل بدمشق وكتب “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر”.