« ان الشعوب لا تتقدم الا بالابداع، وبالأفكار والمنتجات الجديدة، وتحفيز المواطنين مهما كان موقعهم، او مستوى تعليمهم، او درجة مهاراتهم، تحفيزهم على تقديم شيءٍ للمجتمع ، ولهم أيضاً. فكل إبداع يعود بالخير على صاحبه وعلى المجتمع.فهل يمكن للأقطار العربية، او الجامعات والمدارس، أن تبدأ التجربة؟»
تحت تأثير تيار العولمة، واتساع صناعة المال، والركض وراء بناء الثروة السريعة، ظهرت اتجاهات جديدة لدى الشباب. تتمثل هذه في إعراضهم عن دراسة العلوم والتكنولوجيا والهندسة والمواد المعقدة الأخرى كالطب والصيدلة والجيولوجيا. وبدلاً عن ذلك، حل مكانها الاقبال على دراسة الاعمال، والتسويق، وتكنولوجيا المعلومات، واللغات، وغير ذلك من التخصصات ذات الطبيعة الخدمية. أي الملتصقة بقطاع الخدمات والأعمال، بدلاً عن تلك التي يقوم عليها قطاع الانتاج، وخاصة انتاج السلع، والتي تشكل العمود الفقري لاقتصادات الدول المتقدمة، وفي مقدمتها أمريكا و أوروبا واليابان. وبدأ هذا الموضوع قوياً في المانيا، التي تمثل الصناعة بالنسبة لها العنوان الحضاري الكبير.
وراحت الصناعات الألمانية، ومراكز الأبحاث، والكليات العلمية، تعاني من نقص في إقبال الشباب عليها. الأمر الذي إذا استمر على مدى عدة سنوات، من شأنه أن يضع ألمانيا في مرتبة رابعة او خامسة في عالم الصناعة. بدلاً من مرتبتها الثالثة الآن.
ولتشجيع الشباب على الاقبال على تخصصات العلوم والهندسة والتكنولوجيا، يجري حاليا تنظيم سلسلة من المعارض العلمية التكنولوجية، التي يشارك في اعداد المعروضات فيها، علماء ومهندسون وشركات صناعية، وجامعات وكليات تطبيقية. هذا اضافة إلى الشباب الموهوبين ،الذين يشاركون في اختراعاتهم وابتكاراتهم التي كانت من ابداعاتهم الشخصية، والتي كانت بحاجة لان تجد الفرصة المناسبة ليتعرف عليها الجمهور. والأهم من ذلك ليتعرف عليها الشباب الآخرون. فتكون لهم هذه الاختراعات بمثابة دعوة، بل وتحد للانخراط في دراسة العلوم والتكنولوجيا في الجامعات والكليات التطبيقية ،حتى تتاح الفرصة لهم بان يصبحوا متميزين باختراعاتهم، و انطلاقاتهم التكنولوجية، وخيالاتهم العلمية التي تعبر عن إمكاناتهم وتطلعاتهم. وقد لاقت هذه المعارض اقبالاً شديدا من الشباب، واهتماماً بالمعروضات، ورغبة في التنافس والتحدي، ومضاهاة الأقران. ومن المتوقع أن يؤدي كل ذلك، إلى اعادة الاعتبار للتخصصات العلمية والتكنولوجية، بكل ما تتطلبه من جهد وعناء.
وتكمن أهمية هذا النشاط، في التنبه المبكر من قبل المسؤولين عن التعليم والصناعة والاقتصاد، لتوجيه الشباب في الاتجاهات التي تخدم الاقتصاد الوطني على المدى البعيد. أما الاسلوب فلم يكن بالمنح والمنع، ورفع العلامات أو تخفيضها، وتحديد الاعداد ، وغير ذلك من الاساليب التقليدية لدينا، وانما من خلال اثارة روح الاهتمام لدى الشباب. واذكاء جذوة التحدي، حين يرون انجازات زملائهم. وهذا ما يحتاجه شبابنا في كل قطاع من القطاعات.
ومن جانب آخر، فإن احد مديري الكليات في اليابان، لاحظ ان بلاده تحتفل سنوياً مع بلدان العالم الاخرى، بالايام العالمية المختلفة مثل: اليوم العالمي للامية، واليوم العالمي للمرور، واليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، واليوم العالمي للمرأة ،والبيئة، والمياه، والطاقة، والطفل، وغير ذلك الكثير. ولاحظ هذا المدير، «ان ما يجري هو اقل مما هو ممكن». فلا يكفي، في نظره، ان يتم تثقيف الطلبة وتعليمهم حول هذا اليوم واهميته، وانما لا بد من عمل منتوج جديد، وابتكار شيء مفيد، وابداع آلية ونظام او ترتيب، يحول الاحتفال من تظاهرة للتوعية والتثقيف إلى مناسبة لتقديم شيء عملي للإنسانية. وبالتالي راح هذا المدير يطلب من طلابه في كل يوم عالمي، ابكتار شيء جديد لخدمة هذا اليوم والمستفيدين منه. طلب ذلك استناداً إلى يقينه بان الشباب لديه القدرة على تطوير أفكار جديدة ،مهما كانت بسيطة، إلا أنها قادرة على تحسين نوعية الحياة… وكانت النتائج مذهلة. فقد بدأت تتصاعد الابتكارات يوما بعد يوم، وتأثرت مدارس وكليات أخرى بهذه الفكرة فانتشرت على نطاق واسع. وكان من أجمل ما تم ابتداعه:» ممر مشاة» لفاقدي البصر. وهو عبارة عن شريط على الرصيف، مدهون باللون الأصفر، بعرض (60) سم، و على سطحه نتوءات نصف كرة صغيرة . و حين يتحرك فاقد البصر، يتابع بعصاه تلك النتوءات ، فلا يخرج عنها. ويصل الى المكان الذي يريد، بما في ذلك محطات القطارات والأماكن العامة المختلفة.
ولنتخيل نحن هذا في الوطن العربي، حيث اعداد الطلبة الجامعيين ما يقرب من (5) ملايين، والمدارس الثانوية فقط ما يقرب من (6) ملايين، لو أن في كل يوم من الأيام العالمية أو حتى الأيام الوطنية، تم تحفيز الطلبة و الشباب على ابتكار شيء او اختراع منتج ما، يستفيد منه الناس ذوو العلاقة في اليوم المذكور.
كم وكيف ستكون النتائج؟ وأية روح؟ و طموح يمكن ان يأخذ طريقه إلى عقول و نفوس الشباب؟ ومن هم متابعون لتأهيلهم؟
صحيح إن هناك معارض للاختراعات تقام بين الحين والآخر، ولكن المطلوب دائما، هو إثارة روح التحدي الذهني والعلمي والابداعي العلمي لدى المبدعين ولدى الأجيال الصاعدة. وهذا من شأنه أن يحل محل روح التحدي البدائية، أو السياسية ، أو الفردية ،أو الجهوية او غيرها .
ان الشعوب لا تتقدم إلا بالإبداع، وبالأفكار والمنتجات الجديدة، وتحفيز المواطنين مهما كان موقعهم، او مستوى تعليمهم، او درجة مهاراتهم، تحفيزهم على تقديم شيءٍ للمجتمع ، ولهم أيضاً. فكل ابداع يعود بالخير على صاحبه وعلى المجتمع.
فهل يمكن للأقطار العربية، أو الجامعات والمدارس، ان تبدأ التجربة؟ سواء من حيث أساليب تغير اتجاهات الشباب أو دعوتهم للابتكار في مواضيع معينة ولغايات معينة؟ ذلك ما يمكن أن يسارع من وتيرة التحول الاجتماعي والتقدم نحو مستقبل أفضل.
د. إبراهيم بدران
* نقلا عن “عمان اليوم” العمانية