شخصيات أدبيهمبدعون

التشكيل الجمالي في ديوان «ضفائر روح» للمصرية ديمة محمود

التشكيل الجمالي في ديوان «ضفائر روح» للمصرية ديمة محمود

 

 

التشكيل الجمالي في ديوان «ضفائر روح» للمصرية ديمة محمود

 

 

تمثل التجربة الشعرية للشاعرة ديمة محمود منعطفا في الكتابة الشعرية، نظرا لما تنماز به من أناقة في خلق قصيدة تحتفي بكينونتها الشعرية بلغة تغوص في العمق الذاتي، محمّلة بنبض الدهشة/ دهشة الخلق الأولى، ولعل هذا ما لمسته وعايشته بمجرد الإبحار في متن ديوانها الموسوم بعنونة موحية بالصنعة الشعرية، ليس كما فهمها الأسلاف من النقاد، وإنما انطلاقا من تصور نابع من الإحساس المرهف للذات الشاعرة مع اللغة والذات والعالم.

تصور مُسْتَرْفَدٌ من متخيل فيه الْجِدَّة لكتابة شعرية تنسج شعريتها من الروح والتجربة في الحياة، ومن الرؤية الخاصة بها تجاه العالم. إنها كتابة متولّدة من مخاضات الإبداع المنبعث من قلق الذات واحتراقاتها. إن هذا الأمر لم يأت من فراغ بقدر ما نتج عن مصاحبة هادئة ومتفحصة لهذا المتن الشعري، الذي يزخر بأبعاد جمالية وثيمات مرتبطة بقضايا الإبداع الشعري والانشغالات الذاتية، فالشاعرة تنسج قصيدها في نسيج محبوك بمتخيل ممتد في صور شعرية خارقة على مستوى التشكيل الجمالي، إذ الأساليب البلاغية متخلقة من رحم عسر الولادة الأولى، فمحنة الولادة تبدو، من خلال، الاتكاء على معاناة المرأة أثناء المخاض، هذا المتخيل المشترك في الذاكرة الجمعية، اتخذته الشاعرة مطية للتعبير عما تكابده الذات الشاعرة لإبداع تجربة شعرية مختلفة، وتتكبده من عذابات أليمة ولذيذة من أجل الخلق والابتداع، وتلك سيرة الشاعرة في هذه التجربة. إنها تجربة تبحث عن النص الشعري، وفق رؤية شعرية تغرف من منهل التوحد مع الروح، لكي تضفر للمتلقي نصوصا مجدولة بنفس شعري نابض بعسر المخاض، وبالإحساس بولادة جديدة من رحم العتمات إلى مهد الأنوار المضيئة ليل الكائن والموجود. والقصيدة المبحوث عنها لا تقول ذاتها إلا بلغة تتغيى الانعتاق من شرنقة الكمون إلى عالم البوح، رغم كون الذات الشاعرة تتماهى مع المكان كدافع للاغتراف من القاع العميق وتشكيله نصا يبوح بما يراود الجسد من مكابدة الولادة/ الخلق تقول:

(أوقن بأنك لست البكماء ولا الضريرة

لكن الولادات القيصرية غالبا ما تتعثر

ليخرج إلينا أطفال كالأقمار

تنسينا وجوههم الدرية

كل عذابات الوحام

وكل الندوب وآثار الخياطة

وبقع الآلام ووخزات الحقن الوريدية)

هكذا تتخلق الثورة من أجل الحياة نكاية في الموت، والحلم المفضي إلى الفرح والغبطة لمعانقة الأرض الولود بالخصب والأرحام واللغة، في هذه الرغبة ثيمة البحث عن الكينونة المغتصبة بفعل الأغلال التي تجعل الذات الشاعرة أسيرة الواقع الجائر، وتحد من الإرادة الذاتية لمعانقة الطهر السماوي والاحتفاء بجوهر الكائن تقول:

(ذات ثمالة ألمت بي

أتسلل خلسة

على سلم اللحون

وأذوب بين التقاسيم

فلا أمتلك الانعتاق

ولا يتملكني التوحد

وأصمد في حيرة

أتأرجح بين كأسين:

انعتاق وتوحد )

فالرغبة الجموح، التي صاغتها الذات الشاعرة في تواشيح تعبيرية وجمالية، في التحرر من كل ما يعيقها تختار الذات غواية الشعر لتعجن، دلالة على الصيرورة الوجودية، الكينونة أمام بطلان التوحد والانعتاق، فكان التماهي مع إيقاع الباطن تعبيرا عن التجلي، الذي وصلت إليه في معراج الابتهال ليكون طريقا للتحرر من الدناسة الوجودية والسمو نحو الصفاء الذاتي، وهي تحلق في سماء التراتيل والشهادة، على (أن الاكتمال سيرته النقصان) وتلك حقيقة الكائن. وعليه فالذات تشكل عالما شعريا مرجعه العودة إلى الرحم/ البدايات كأصل الوجود تقول:

(أتكور على ذاتي

علّني أقتات عشب البدايات

جنينا أصير

وأنتشي بتمائم الحبل السري

ويجذبني مسك المشيمة

أسترجع تلك الأبدية)

فالعودة الأبدية، هي فرار من جحيم العالم السفلي الحافل بالمفارقات الرهيبة المتحكمة في السلوك البشري، إلى العالم الطهراني عالم الوضوح والبراءة والنقاء، حيث تعثر الذات عن اكتمالها الناقص في الكتابة الشعرية تقول:

(طاهرة أغدو

من كل ترسبات البشر

ومجردة من أقنعتهم ودماهم

خالية من الهلام والصباغ)

هذا الطهر الباطني يجعل الذات تحلق بعيدا عن الجلبة والغوغائية، محتفية بالغوص في العمق الداخلي لكشف اللاوعي الشعوري المبطَّن للْعُقَد الدفينة الناجمة عن القيود الاجتماعية والثقافية المشكلة من الخرافات والأساطير والأباطيل، فتغدو الكتابة جماع للذات وللاوعي والحب والضمير والذاكرة والتجربة، فنجد الشاعرة تعيش حالات وجودية مفعمة بالإرادة في تكسير جدار المسكوت عنه تقول:

(جُبْتُ الغوص في مناجمي

في الذات واللاوعي واللغة

وجدفت في غيري

وصرت لغتهم وصوتهم ودفق أوردتهم)

هكذا تستنطق الذات الشاعرة الروح وتضفرها بماء شعرية متدفقة في صور شعرية فاتنة ومدهشة، سواء على مستوى التشكيل الجمالي، حيث الانزياح التعبيري هو السائد في خلق نصية شعرية تحتفي بكل ما هو صادم للذائقة الشعرية، والتوظيف المجازي والاستعاري القمين بالتجدد والابتداع تقول:

(أمتشق قامة الغياب

وأمتطي صهوته

لا ألوي على حضور

سوى فتات الحاضر القريب

وكثير من السالف الغائر في الأعماق)

فالذات تعرّي حقيقة الباطن/ اللاوعي، عبر ثنائية الغياب والحضور، التي تجلي المعاناة والاحتراقات المعبرة عن الرغبة في كشف المكنون، حيث تتجرد من كل شيء، أي أنها متحررة من كل الأغلال، لتقول الذاكرة تاريخ الصراع الذي تعيشه الذات بين الوعي كمصدر للشقاء الوجودي واللاوعي الذي يتم التعبير عنه بلغة العواطف والأحلام تقول الشاعرة:

(أغلقت عيني

ورحت أتعاطى الحلم

وأختلس من ثنايا الندف نظرة

علَّها تلقي بي فيها)

فالرجوع إلى الذاكرة ماهو إلا مطية أسلوبية للاحتفاء بتاريخ الذات المتواري خلف حجب اللاوعي، وذلك بالاحتفاء بالأم كرمز أنثوي معبِّر عمّا تتعرض له المرأة من صنوف العنف، سواء المادي منه أو المعنوي، ومن ثم فالمتن الشعري للتجربة يصور هذه المحنة الوجودية تقول:

(أمي

طريق جلجلتك مأسور

بفكي ذكورتين

معمّد بدموع عينيك

وزجاجك مكسور

وشظايا روحك المنثورة كالهباء)

فالبنية العميقة للمقول الشعري توضح حالة التشظي التي تعيشها الذات في علاقتها بالعالم الأبيسي/الذكوري، لا ترى في المرأة سوى الجوانب المغرية، لذلك فهي توظف رمز الأم للتعبير عن واقع المرأة العربية. فالأم تتعرض لكل أصناف التعذيب المادي والمعنوي من إقصاء وحرمان من التعبير عن كينونتها الأنثوية، وأيضا عن مواقفها تجاه العديد من المظاهر الاجتماعية المنافية لحق الإنسان في الحياة. وأمام وضع كهذا تلوذ الذات الشاعرة إلى العزلة رفضا لهذا الواقع، وتمجيدا لأحقية الذات في التعبير عن أسرار الكوامن تقول:

(للصقيع هيبة وتفاصيل

لا يعرفها إلا البطريق وأنا

آنئذ تعتريني وحشة

ورغبة في التنحي والانطواء)

تلك سيرة الشاعرة ديمة محمود التي كتبتها بلغة منذورة للعمق الإنساني، ونابعة من قلق الكتابة، التي تشكل عوالمها المبدَعَة من تشكيل جمالي، سِمَتُهُ الخروج عن المألوف في البلاغة القديمة، والجنوح صوب العدول ـ بتعبير القدامى- المتجسد في لغة شعرية أنيقة في البساطة وعميقة الدلالات، مما يزكي الهاجس الجمالي الذي كان المحرك الأساس لخلق تجربة شعرية تعبر عن كينونة مسلوبة في ظل أعراف صدئة ومتجاوزة، لكن الذات الشاعرة تتمرد على هذا الواقع وتعلن عن الموقف الوجودي الذي تتبناه تقول:

(سأقارع الموت بالحياة

والكره بالحب

والأنياب بالقبلات

وأتبادل بالقبلات

سأجد ريقي

وأعدُّ العشاق)

هكذا الذات الشاعرة تنتصر لقيم الحياة نابذة الموت، عبر المقارعة بالحب والقبلات والعشق وكل ما يمُتُّ بِصِلَةٍ إلى عالم الفرح والوجود، والشاعر، من طبعه، محب للحياة ولكل ما هو جميل، حتى تشيع القيم النبيلة والسامية في عالم حالك ومظلم، ولعل الإصرار على هذا يؤكده المتن الشعري الحافل بالخلق والتكوين تقول:

(لن أمل الحب ولا الحياة

لن أهوى ولن أتهاوى

سأرعى الإنسان في دمي

سأغذي الطفل داخلي)

إن المقول الشعري يبرز مدى العمق الدلالي للغة الموظفة، هذه الأخيرة تتسم بالسلاسة والعذوبة، مشكلة صورا شعرية غاية في التصوير النابع من الخفق الداخلي للذات الشاعرة، هذا الشعور النابض بالحياة والحب والإنسان والطفولة، ومن ثم يمكن اعتبار هذه التجربة الشعرية تسترفد وجودها الإبداعي من هذه المنابع الذاتية المنغمسة بما هو وجودي تقول:

(سأطوق نفسي بنفسي التي أردت

سأدمن ذاتي التي أريد

لئلا يغادرني الإنسان

لأحلق في خيوط الغيم

وأنساب إكسيرا يروي

سنابل القمح)

تبدو الصور الشعرية نابضة بالحركية والحياة، ومن خلال هيمنة الأفعال المضارعة الدالة على المستقبل، وعليه فالتجربة الشعرية لدى ديمة محمود تراود الأفق المستقبلي برؤية نابعة من الباطن الملتف حول الذات التي تبتغيها الشاعرة من أجل الإنسان.

يمكن القول في الختام إن التجربة الشعرية للشاعرة ديمة محمود قمينة بالإبحار العميق في مياهها الباطنية، ودواخلها الجياشة بالمحبة والعشق والإنسان، وأفقها الشعري الحالم بالحياة في دلالاتها الحابلة بالجمال والقيم النبيلة. وتستحق التجذر في تربة الشعرية العربية.

صالح لبريني-   نقلا عن القدس العربي

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى