الحاجز الدموي الدماغي تقنية مبتكرة لإجراء مناورات
قبل نحو عامين، اجتمع علماء مركز أبحاث السرطان البريطاني من أجل وضع سياسة واضحة للقضاء على واحد من أكثر أنواع السرطان فتكًا. فعلى الرغم من العقود التي قضاها الباحثون في فحص أورام المخ، لا تزال تلك السرطانات من أكثر الأنواع فتكًا، مقارنةً بالأورام السرطانية الأخرى.
فتلك الأورام لديها قدرة غريبة على مقاومة جميع العلاجات التقليدية والجديدة؛ إذ إن خصائصها الفريدة المتعلقة بمكانها وقدرتها على التكاثر والغزو لا تزال غير معروفة على وجه الدقة، وهو الأمر الذي يحُد من إمكانية علاجها أو السيطرة عليها. فأكثر من ثلث البالغين المُصابين بالورم الأرومي الدبقي يموتون خلال عامين، دون أمل في النجاة.
وقد ثبت أن علاج سرطانات المخ أمرٌ صعبٌ للغاية، ويرجع ذلك -إلى حدٍّ كبير- إلى خصائصها البيولوجية التي تتآمر علينا في كثير من الأحيان. فتلك الأورام تخترق المكان “الأقدس” في الجسم، كما أنها تقع في الغالب في أماكن بعيدة تستعصي على جراحي الأعصاب الأكثر مهارة. وفي الغالب يؤمِّن لها الدماغ حماية فريدة؛ فهي غالبًا ما تنمو خلف ستار معروف باسم الحاجز الدموي الدماغي، وهو مجموعة من الوصلات الضيقة وبروتينات النقل التي تحمي الأنسجة العصبية الحساسة من التعرُّض لعوامل في الدورة الدموية -كعامل التخثر المسبب للجلطات على سبيل المثال.
وجود معظم سرطانات الدماغ خلف الحاجز الدموي الدماغي يعوق وصول الأدوية والعلاج الكيميائي إليها، ما يجعلها أكثر مقاومةً وفتكًا.
في ذلك الاجتماع، وضع خبراء مركز أبحاث السرطان البريطاني مجموعةً شملت 7 توصيات، أهمها على الأطلاق البحث عن وسائل غير تقليدية لتوصيل الأدوية مباشرةً إلى عمق أورام الدماغ، واستكشاف طرق مبتكرة لتصميم التجارب السريرية.
ويبدو أن إحدى الشركات في طريقها لتنفيذ التوصيات؛ فوفق دراسة نُشرت في دورية “ساينس ترانسليشنال ميديسن”، تمكنت شركة أمريكية من ابتكار أداة يُمكن استخدامها مستقبلًا لعلاج الأورام الدماغية، عبر نقل جزيئات الأدوية كبيرة الحجم إلى عمق الدماغ.
تلك الطريقة لن تعالج السرطانات فحسب، بل ستسهل علاج مجموعة كبيرة من أمراض الدماغ، من ضمنها متلازمة “هنتر” وأحد أكثر أنواع الخرف شيوعًا.. ألزهايمر.
تشتهر شركة “دينالي ثيرابيوتكس” الكاليفورنية بعملها في تكنولوجيات وسائل نقل من نوع خاص. المَركبات التي تصنعها الشركة لا تنقل البشر، ولا حتى الحيوانات، بل تنقل الأدوية إلى الأماكن المستعصية. ومؤخرًا، نجحت تلك الشركة في ابتكار مركبة خاصة يمكنها نقل الإنزيمات والبروتينات والمرور عبر الحاجز الدموي الدماغي بسهولة وفاعلية.
تلك المركبة قادرة على إجراء مناورات في متاهة الحاجز الدموي الدماغي، والمرور عبر الشعيرات الدموية والخلايا التي تحمي المخ من غزو الكائنات الغريبة. كل ذلك وهي محمَّلة بالدواء القادر على معالجة أورام الدماغ، أو أمراضه المختلفة.
لعلاج أمراض الدماغ، يواجه العلماء مشكلةً كبيرة. فعلى الرغم من وجود عدد من الأدوية القادرة على تخطي ذلك الحاجز، تكون الجرعة منخفضةً عند وصولها إلى الدماغ. فجزءٌ من تلك الأدوية لا يستطيع تخطِّي الحاجز الدموي، بل يَعلق بين خلايا الدماغ، وتقوم الغدد الليمفاوية بالتخلص منه في وقت لاحق. ولا يستطيع الأطباء زيادة جرعات الأدوية؛ بسبب آثارها الجانبية شديدة الخطورة. وبالتالي، يكمن الحل في ابتكار طريقة غير تقليدية لتوصيل كميات الأدوية القادرة على القضاء على الأمراض إلى المخ.
في تلك الورقة صمم الباحثون مَركبةً قابلةً للتبلور، تتفاعل مع أسطح الخلايا المبطنة للأوعية الدموية الموجودة في الحاجز الدموي الدماغي؛ لتنقل الدواء عبر الحاجز، وتوصله إلى المكان المطلوب.
ونجحت تلك التجربة بالفعل في تقديم دليل الفاعلية في الفئران والقرود. ويتوقع الباحثون أن تبدأ دراسة سريرية على البشر خلال الشهور القليلة القادمة.
يبحث العلماء عن كأسٍ مقدسة للعلاجات الحيوية. تلك الكأس تمثلت في القدرة على نقل الجزيئات الكبيرة عبر الحاجز الدموي الدماغي بأمان. في تلك الدراسة، اخترع العلماء مركبة نقل خاصةً باستخدام هندسة البروتينات التوافقية. تلك المركبة قادرة على التفاعل مع الأحماض الأمينية الموجودة في الخلايا المبطنة للأوعية الدموية، باستخدام عملية تُسمى التطور الموجه.
في البداية، فحَص العلماء مجموعةً كبيرة من المواد الكيميائية القادرة على الارتباط بمستقبل يُسمى “الترانسفيرين”. يقوم “الترانسفيرين” بنقل الدم المحتوي على الحديد إلى الدماغ. ويسمح الحاجز الدموي الدماغي بمرور كل الجزيئات التي يُعرفها ذلك المستقبِل.
بعد عملية البحث الشاقة، وجد العلماء نوعًا من الجزيئات القادرة على الارتباط بذلك المستقبل على نحوٍ ممتاز. بدأ الباحثون في تحديد خصائص ذلك الجزيء؛ لمعرفة مدى قدرته على حمل الجزيئات العلاجية الكبيرة.
وجد الباحثون أن ذلك الجزيء له قدرة كبيرة على حمل الدواء، والمرور عبر الحاجز الدموي الدماغي بمساعدة الترانسفيرين.
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، طور الباحثون نهج “حصان طروادة” لتوصيل الأدوية. تعتمد تلك الطريقة على ربط الأدوية بالأجسام المضادة؛ لتوصيلها إلى الدماغ. فشلت تلك الطريقة طيلة الأربعين عامًا الماضية. ورغم فشلها، أغرت تلك الفرضية العديد من شركات الأدوية العاملة في مجال توصيل الدواء إلى الدماغ. فحال نجاحها، ستكون الطريقة “حصان طروادة” لتحقيق المكاسب أيضًا.
توضح نتائج الدراسة قدرة “عربة النقل” على إظهار زيادة واضحة لكميات الأدوية التي تصل إلى دماغ الفئران. وقد أثبتت الشركة إمكانية استخدامها لعلاج الفئران المُصابة بمتلازمة قاتلة تُسمى “هنتر”.
وفق الموقع الرسمي لـ”مايو كلينك”، تُعد متلازمة هنتر اضطرابًا وراثيًّا نادرًا جدًّا، وتنجم عن إنزيم مفقود أو معطَّل. وبسببها لا يملك الجسم ما يكفيه من إنزيم “أيدورونات 2-سلفاتاز”، الذي يقوم بتفكيك بعض الجزيئات المعقدة وتكسيرها، ومن دون وجود ما يكفي من هذا الإنزيم تتراكم الجزيئات بكميات ضارة، ويؤدي التراكم إلى حدوث أضرار على المظهر والنمو العقلي والقدرات البدنية. وحتى الوقت الحالي، لا يوجد أيّ دواء أو علاج لتلك المتلازمة.
يُعَد الجهاز العصبي المركزي من أغنى أجهزة الجسم بالأوعية الدموية. تترابط خلاياه مكونةً وحداتٍ عصبيةً وعائية يتزاوج فيها النشاط العصبي بدفق الدم لتوفير الغذاء والحماية معًا. يُقيد ذلك التزاوج نقل معظم الجزيئات الكبيرة المنتشرة في الدم، ويمثل تحديًا رئيسيًّا للعلاجات المختلفة. يقول المتخصص في علوم الأورام بمركز السرطان البريطاني “ستيفن بولارد”: إن تلك الدراسة تضع “حجر زاوية” في علاج عددٍ من أمراض الدماغ، وليس الأورام السرطانية فحسب.
يقول “بولارد” في تصريحات خاصة لـ”للعلم”: إن الدراسة قدمت “وحدات نقل بالغة الفاعلية” لتوصيل الأدوية الحيوية للدماغ. مشيرًا إلى أن تلك الوحدات “تعزز امتصاص الدماغ للأدوية”، وتساعد على امتصاص مكوناتها؛ من أجل تحقيق هدف تلك المركبات المتمثل في شفاء المرضى.
ويرى “بولارد” أن مَركبات النقل تلك تُظهر تفاعلات جيدة للغاية مع الحاجز الدموي الدماغي، ما يجعلها “هدفًا جذابًا للغاية لعلاج أمراض الدماغ المستعصية”.
ويقول الرئيس التنفيذي لشركة “دينالي ثيرابيوتكس” والمؤلف المشارك في تلك الدراسة “رايان واتس”: إن الدراسة “تهدف في الأساس إلى هزيمة الحاجز الدموي الدماغي”، مشيرًا -في تصريحات خاصة لـ”للعلم”- إلى أن تطبيق تلك الإستراتيجية “يُحسِّن التعرُّض للأدوية، وتوزيعها بتركيزات أكبر على مناطق الدماغ الواقعة خلف الحائل الدموي، وبالتالي يزيد من فاعليتها العلاجية”.
استمر العمل على تلك الدراسة نحو 5 أعوام، وفق “واتس”، الذي يقول إن النتائج جاءت في أعقاب بحوث تعاون فيها المجتمع العلمي بأسره طيلة ثلاثين سنة ماضية.
يأمل “واتس” أن يُحسِّن نظام النقل المبتكر من فاعلية الأدوية المخصصة لأمراض الدماغ، مشيرًا إلى أن التجارب السريرية المزمَع إجراؤها قد تجعل من الحلم حقيقة.. حلم الوصول إلى ما خلف الحاجز العنيد.. الحاجز الدموي الدماغي.
المصدر: scientificamerican