الحياكة مهنة طرحت نفسها منذ القدم كضرورة معيشية تحتّمها ظروف الحياة القاسية ومتطلباتها، كما وصفها المؤرخ الراحل الدكتور فيليب في أحد مؤلفاته، موضحاً أنها “صناعة بيتية” شكلت نموذجاً للإبداع اليدوي.
وهي تندرج في إطار الصناعة اليدوية وقد اعتمدت في الحقبة الفينيقية قبل ثلاثة آلاف سنة ق.م، فكانت «الأقمشة الفينيقية تقدّم على سواها ليس فقط لحسن نسجها وإتقان حياكتها ولكن أيضاً لصبغها بالأرجوان».
وقد تطورت هذه الصناعة واستخدمت النول للحياكة، أما الصوف فكان أول مادة استعملت في الغزل والحياكة. وانتشرت آلة النول وهي آلة يدوية لحياكة الأصواف والسجاد في لبنان، بفعل هجرة السوريين من حمص فبرع أهالي ذوق مكايل في منطقة كسروان من جبل لبنان في الحياكة على هذه الآلة من خلال النهضة التي أحدثها الأمير فخر الدين في صناعة الحرير اللبناني وعززها الأمير بشير الشهابي حين استقدم عائلات من سورية، لاسيما من حلب ودمشق وحمص لتعزيز ودعم هذه الصناعة.
ويؤكد ذلك إسماعيل حقي بك في كتاب «لبنان مباحث علمية واجتماعية»، فيشير إلى أن «أهل الذوق تعلموا من أهل حمص وحماه صناعة نسيج العباءات ثم أخذوا يتفننون بصناعتهم و يرسمون على النول بالمكوك، ويطرزون بخيوط فضية وذهبية ومبرقشة بالألوان الرسوم المختلفة… فأقبل عليها المشترون وراجت في مدن سورية ومصر». ومنذ ذلك الوقت تميز النول الذوقي بالإبداع اليدوي وتفرد بإنتاجه في الحياكة فانتشرت شهرته في لبنان حتى أصبح من الصعب فصل اسم الذوق عن الحرير المنسوج، وقال ابن البلدة أنطوان قازان في كتابه «أدب وأدباء» أن «اللون لوحة، والخيط معجزة والنتاج بقاء».
وقد تميز النول الذوقي ببصمة فنية خاصة أعطته هويته الشخصية، فهو لا يشبه من حيث الوظيفة النول العربي الذي يحيك صوف الغنم، بل يتخصص في صناعة الكماليات ومنها العباءات للمشايخ المطرزة بخيوط ذهبية وأغطية الطاولات المزدانة بالخيوط والنقوش الشرقية، إضافة إلى جهاز العروس الذي يشكل مفخرة إنتاج الذوق.
وفي ظل السعي المستمر للمحافظة على الصناعة اليدوية أنشأت السيدة “لودي إدة” عام 1956 مركزا في سوق الذوق لتعليم حياكة النول بعدما لاحظت تراجع اندفاع الشباب عن مزاولة هذه الحرفة التراثية العريقة، ولتشجيع استمرار هذه الصناعة أطلقت «جمعية إنهاض الصناعة اليدوية اللبنانية» التي لا تزال قائمة حتى اليوم ورغم الأوضاع الاقتصادية المتردية تعتبر نقطة استقطاب لمشجعي الإنتاج اليدوي اللبناني.
وقالت الموظفة في المركز كاتيا باسيل أن «الجمعية تعمل على إحياء هذه المهنة عبر تشجيع الحرفيين، وعرض إنتاجهم للبيع في مركزها الذي يشرع أبوابه للسياح العرب والأجانب كل أيام الأسبوع من الساعة العاشرة صباحا ولغاية الخامسة عصرا، كما يستطيع الزائر تأمل الحائك وهو يعمل ويمكنه شراء العباءات المطرزة والشالات والمناشف والبياضات وأغطية الأسرة المطرزة». وتجدر الإشارة إلى أن النول الذوقي في تركيبته وآلية عمله يتدرج في إطار النول العربي الذي يقسم إلى قسمين: دولاب ونول.
فذكرت السيدة باسيل أن «الدولاب مصنوع من الخشب يركز على قلب يستخدم بمقبض للف الخيطان على «الطيارة»، وهي عبارة عن قفص مستدير يلف عليه الخيط. أقسامه عدة، أربعة منها للسقالة، مخصصة لحمل «الأكتاف» واثنان مثبتان في الخلف لحمل المطواية، وهي كناية عن خشبة مستديرة تمسك بالخيوط أثناء الحياكة. والجدير ذكره أن النول يضم اثنتي عشرة دعسة، أربع تستعمل لحياكة القماش وتخصص الدعسات الباقية لحياكة النقوش، كما يستخدم الحائك قطعة من القصب ليحافظ على تسريحة الخيوط. ويعتبر الحائك أنطون المطران سعاده أن «حرفة النول» متكاملة في الذوق، قوامها جودة الحياكة ودقة تصميمها، وقد عمل على تطوير النول الذوقي ليستوعب حياكة الجدرانيات، ولم يتردد في بيع منزل يملكه ليحقق حلمه توسيع النوع، ويطلق على النول الذي يستخدمه اليوم اسم «النول العريض» الذي يخوله تنفيذ جدرانية قطعة واحدة.
زوجة انطون سعدى تعلمت منه شغل النول و«الصرما» الذي يعتمد على تغليف الكرتون بخيوط القصب التي تأخذ أشكال الزهور الخطوط، لما تحمله هذه الحرفة من أبعاد فنية مميزة.
وحفاظا على هذه الحرفة قام الحائكون الذوقيون بتأسيس نقابة تجمعهم بتشجيع من رئيس البلدية نهاد نوفل وأطلقوا عليها اسم «نقابة اصحاب المنسوجات اليدوية الذوقية»، ورعت البلدية شغل النول واستأجرت عام 1968 مسرح السوق من دير البشارة، حيث جهز بالخزائن وطاولات العرض، لجعله معرضا دائما للإنتاج الذوقي في هدف تشجيع هذه الحرفة بعد الركود الذي أصابه بفعل الأحداث التي تعرض لها لبنان.
بيروت: زينة خليل