الشيخ المحلاوي .. مُحْتَسِبُ الشعب على الملوك والأكابر!
من بشارات الخير في هذه المرحلة الكئيبة التي تعجز فيها الأمة عن التداعي لوقف نزيف جرحها الدامي في فلسطين، ونصرة أبنائها المذبوحين هناك، ما حدث من ضجيج صفحات التواصل بخبر وفاة الشيخ المجاهد الصادح بالحق “أحمد المحلاوي” بعد حياة مديدة جاوزت المائة عام هجرية..
Table of Contents
الشيخ المحلاوي وسيرة السلف
والبشارة في ذلك هو ما تمثله سيرة الشيخ من تجسيدٍ واقعيٍ لما كنا نقرأه من سيرة سلف الأمة في قرونها الزاهرة والتي قال عنها الإمام حجة الإسلام “أبو حامد الغزالي” [٤٥٠-٥٠٥هـ] في كتابه القيّم إحياء علوم الدين:
«هكذا كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم، ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة، فلما أخلصوا لله النية أثّر كلامهم في القلوب القاسية فليّنها وأزال قساوتها. وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألْسُن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا..
ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر!”.
فالمحتسب في عهد الدولة الإسلامية هو من ولاّه السلطان ليُنكر المنكر إذا ظهر فعلُه، ويأمر بالمعروف إذا ظهر تركُه. ولما انحرف الحكام عن العمل بمقتضى شريعة الله وأحكام دينه الحنيف، صار الأمر واجبًا على العلماء أن يتولوا ذلك بأنفسهم حتى يحافظوا على خيرية الأمة التي شرفنا الله تعالى بها في كتابه العزيز: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ﴾[سورة آل عمران الآية ١١٠]..
وإن أعظم درجات إنكار المنكر هو نهي الحاكم الطاغية عن فعله والوقوف ضد فساده وتخاذله واستبداده، لأنه إذا صلح الراعي صلحت الرعية وعظُم شأن الأمة. ولنا في سيرة العالم العامل من ذلك بيّنات عديدة من أبرزها خطبته بمسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية في مطلع شهر يناير سنة ١٩٦٨م، في ظل أجواء نكسة يونيو المخزية وهزيمة مصر تحت حكم الزعيم “جمال عبد الناصر” واضطراره لغلق قناة السويس أمام الملاحة العالمية بعد ضياع سيناء ووقوعها تحت الاحتلال الإسرائيلي!.
فقال الشيخ المحلاوي: «لقد سمعنا في الأخبار تصريح الناطق العسكري لجيشنا المصري، وقد قال إن الرئيس أمر بالبدء غدا بتطهير قناة السويس من السفن المعطلة فيها لنعيد القناة إلى العمل، وإذا تعرض مهندسونا لعدوان الصهاينة فسنرد عليهم بقوة وسيكون ذلك بداية لمعركة التحرير “وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.
فقلنا: يا رب دع الصهاينة يعتدون على عملية تطهير القناة حتى تبدأ معركة التحرير لنرفع رؤوسنا كما رفعناها بعد انتصارنا الرائع في معركة “رأس العش” قبل شهور.
الشيخ المحلاوي والسادات
ولكن فوجئنا اليوم بتصريح للناطق العسكري المصري يقول: “قام سلاح المهندسين المصري اليوم البدء في عملية تطهير القناة فتعرض لإطلاق النيران من قبل جيش “إسرائيل”، فقررنا وقف عملية التطهير ونحن نحمل المجتمع الدولي مسؤولية ذلك”.
أهذا هو الرد الذي انتظرناه يا جيش مصر ويا رئيس مصر؟! وبعد طول الجهد تمخض الجبل فأنجب فأرا!.»..
وبالطبع تعرض الشيخ للمسائلة والإيقاف عن الخطابة ولكن انكسار عبد الناصر بعد النكسة ومظاهرات الطلبة في يناير ١٩٦٨م أعادت الشيخ للخطابة مرة أخرى ليظل منبره منارة للجهر بقول الحق وإرشاد المصلين داخل محافظة الإسكندرية وفي خارجها أيضا..
وقد طبقت شهرته الآفاق عندما وقف رئيس مصر “أنور السادات” يهاجمه في خطابه الشهير في مجلس الشعب الذي استمر لأكثر من ساعتين ونصف وتناقلته جميع وسائل الإعلام المحلية والعالمية على الهواء مباشرة يوم ٥ سبتمبر ١٩٨١م، منها نصف ساعة كاملة أخذ “السادات” يبرر فيها لماذا اعتقل الشيخ مباشرة ولم يقدمه إلى القضاء كما هو متبع في هذه الحالات، بل آثر إحالته إلى المدعي العام الاشتراكي حتى يكون التحقيق سياسيًّا لا حقوق للمتهم فيه!.
فقال “السادات” أن “المحلاوي” خطب في الناس بتاريخ ٣٠ يناير ١٩٨١م يُحرّض ضد رئيس الجمهورية ويقول إنه إذا كان يُصيّف في الإسكندرية ويذهب إلى أسوان في الشتاء فلن يشعر بمعاناة الشعب. وما صاحب ذلك من السفه في الإنفاق في احتفالات عيد الشرطة في ٢٥ يناير والتكاليف الباهظة التي تكلفتها خزينة الدولة جرّاء ذلك، مثل ما سبق حدوثه قبلها في الاحتفال الضخم بافتتاح تفريعة قناة السويس الجديدة في ديسمبر سنة ١٩٨٠م، فضلا عن الإنفاق ببذخ على الاستراحات الرئاسية وكثرتها!.
كما استنكر “السادات” في خطابه هجوم “المحلاوي” على الحزب الوطني ووصفه بعدم ممارسة الديمقراطية في مصر، وتزوير الانتخابات.
وفي النهاية ثارت ثائرة “السادات” عندما وصل إلى رفض الشيخ عقد السلام مع الصـهاينة أعداء الأمة، فوصفه “السادات” بالسفالة والبذاءة وتوعده قائلا: «لن أرحمه».. قبل أن يختم كلامه عن الشيخ الجليل بمقولته الشهيرة: «فلما منعناه من الخطابة، ذهب شباب الجماعات الإسلامية إليه وقالوا: اخطب ولا يهمك ونحن نقف معك.. أهو مَرمي في السجن زَيّ الكلب »!.
وهى الكلمة التي زادت من حنق قاتليه الذين تساءلوا كيف لحاكم يدعي الإيمان يسب علماء الإسلام؟!.
وبعد هلاك “السادات” أُفرج عن الشيخ #أحمد_المحلاوي وعاد إلى عمله –شأن غالبية المعتقلين في أحداث سبتمبر ١٩٨١م– إلى أن صدَرَ قرار بمنعه نهائيا عن الخطابة في العام ١٩٩٦م.
فكانت المرة الأولى التي يظهر فيها عند مسجد القائد إبراهيم بعد ذلك بنحو ١٣ سنة من المنع قضاها في بيته المتواضع بحي كليوباترا بالإسكندرية الذي يسكن فيه، وزاوية مجاورة صغيرة يصلي فيها الصلوات المفروضة. هى تلك التي استدعته فيها الأمة للاستنفار من أجل نصرة المسلمين في غزة من جرّاء العدوان الإسرائيلي عليهم في عملية “الرصاص المصبوب” في ديسمبر ٢٠٠٨م/يناير ٢٠٠٩م، وكان وقتها في الرابعة والثمانين من سنوات عمره المباركة، فوقف بعد انقضاء الصلاة على سلم المسجد الخارجي يخطب في المصلين ويستنهضهم لفك الحصار ودعم إخوانهم في غزة والإنكار على النظام في غلق المعبر وتضييق الخناق على المجاهدين!..
المحلاوي والظهور الأخير
ثم كان الظهور الأخير في أيام الثورة المجيدة والتفاف الجماهير من حوله وتطلع الشباب لسماع هذا الجبل الأشم والشيخ الأسطوري العالي الهمة في وقت سكت فيه أشهر دعاة الإسلام في الإسكندرية وخلدوا إلى السكون وإيثار السلامة على الرغم من أن كتاب كبيرهم الشيخ محمد إسماعيل المقدم المسمى بعلو الهمة ينكر ذلك قائلا: «إن من خصائص الداعية الكبير الهِمّة أنه لا يترخص في السكوت عند قوة أهل الفجور وأذاهم، لأنه يرى أن الترخيص هنا من شأن العامة من المستضعفين، وأما الدعاة، والقادة، والعلماء، فيتمسكون بالعزيمة، ويصدعون بالحق، وإن لحقهم الأذى والعذاب والموت»!.
رحم الله تعالى الشيخ المجتهد المثابر وألحقه بأئمة الأمة وعلمائها المجاهدين الصابرين الصامدين ورثة الأنبياء والمرسلين في الفردوس الأعلى من جنات النعيم..
كتبه الفقير إلى عفو الله / أحمد الشريف
غرة رمضان ١٤٤٥هـ / ١١ مارس ٢٠٢٤م..