منذ قديم الزمان والإنسان في صراع دائم مع الخلود والتغيير، الذي يتجلى في محاولات التسجيل، تسجيل التاريخ والحياة والعلوم والمعرفة بما يسهم في تخليد وجوده ويسهم في حضوره الإنساني، فكتب في أرض النيل على ورق البردي، والصينيون استعملوا الحروف المصنوعة من الخشب، وكتب الأقدمون على الجدران والطين المشوي والحجارة والجدران، وكل ذلك من أجل أن يوثقوا معاملاتهم وتاريخهم وعلومهم وهمومهم وأحزانهم وأفراحهم.
وبقي بحثه دائما عن طريقة أسرع ليحفظ بها حضارته، فاهتدى إلى صنع الآلة الطابعة، وهي اليوم تعمل بجد واجتهاد لتخرج آلاف الكتب التي توزع في مختلف أقطار العالم، آلة لا تكل ولا تمل، وبلحظة واحدة تطبع آلاف الكتب من نسخة واحدة، بعد أن كان النساخ يقضون الأيام والليالي في كتابة نسخة واحدة، لا بل كانت عملية النسخ عملية شاقة تحتاج إلى كاتب مجيد وورق من نوع خاص وقلم بمواصفات خاصة أيضا، وعندما نشاهد، هذه السرعة في نسخ الكتب وسرعة انتشارها، نسأل أنفسنا: كيف نشأت المطابع التي تطبع الصحف والمجلات الملونة أو كتب التاريخ القديمة؟ وكيف انتقلت إلى عالمنا العربي؟
ولم تعد الطباعة اليوم وسيلة لنسخ الكتب فقط, بل صارت وسيلة من أهم وسائل الاتصال الجماهيري التي تشمل كذلك البث الإذاعي والتلفازي، والسينما. والطباعة هي الأساس في عديد من أنظمتنا التعليمية. وتعتمد الأنظمة التجارية الحديثة على الطباعة في كثير من مداولاتها بدءًا من إيصالات البيع، إلى أوراق النقد، وشهادات الاستثمار. كما تعتمد الدعاية والإعلان جزئيًا على الطباعة لترويج السلع والخدمات.
تُعدُّ الطباعة والنشر في كثير من البلدان مجالين من مجالات النشاط التجاري الكبرى. فإضافة إلى الكتب والصحف والمجلات، تتدفق آلاف المطبوعات من المطابع الحديثة كل يوم، مشتملة على الملصقات وأوراق تغليف الحلوى، وعلب المشروبات، ومفكرات التقويم، وأوراق المعاملات المكتبية المسطّرة، وورق الحائط، والبطاقات البريدية، وكتيبات الرسوم الفكاهية، والأعمال الفنية. وصفت الطباعة بعد اكتشافها بأنها الوسيلة الحافظة لآداب الشعوب وثقافتهم وفنونهم وتاريخهم وحضارتهم، حتى أصبح اليوم بالإمكان نشر المعرفة والثقافة والمعلومات على نطاق واسع، كما أصبحت خبرة السابقين وتجاربهم سهلة الانتقال من جيل إلى جيل عن طريق الكلمة المطبوعة، وعلى الرغم من شيوع محطات التلفزة والفضائيات ومواقع الإنترنت بكل تسهيلاته ومعطياته، فإن المجتمعات ما زالت تؤمن أن الآداب والفنون والعلوم تحفظها الكلمة المطبوعة، وهي الوسيلة الأوضح والأسهل وأكثر ديمومة في مستقبل الأيام.
البدايات والإرهاصات
لتاريخ الطباعة في الوطن العربي قصص كثيرة ومتنوعة، تستحق أن نعرفها ذلك أن أبطالها عرفوا أهمية هذه الآلة، واستشعروا أنها وسيلة مهمة في حياتنا، فهي تنقل العلم للملايين من الناس، كما أنها الوسيط بين عقول العلماء والأدباء والشعراء والسياسيين والمتخصصين في الثقافة. لقد كتب العرب على الورق، لكنه كان نسخا باليد، وفي عصور الازدهار العربي زادت أهمية النساخ الذين يكتبون بأيديهم، وزادت أسعار الكتب المنسوخة، بما تكلفه من جهد ووقت، وبقيت النسخ عزيزة لقلتها وندرتها، حتى جاء القرن الـ 15، إذ ذاك حدث انقلاب نوعي في عالم الطباعة، حيث قام جوتنبرج الألماني قبل عام 1455 بطباعة أول كتاب ظل الناس يذكرونه حتى الآن ألا وهو الإنجيل، حيث طُبع هذا الإنجيل بطريقة جمع الحروف وضم الأسطر وعمل صفحات نسقها كما يشاء، وهي طريقة ما زالت بعض المطابع تستعملها حتى يومنا هذا مع تطور طفيف عليها. وإذا كانت الطباعة قد دخلت أوروبا منذ القرن الـ 15 الميلادي، فإن العالم الإسلامي تأخر عن هذا الموعد، وبقي حتى القرن الـ 18، حيث أنشئت أول مطبعة عربية في الأستانة في عهد السلطان سليم الثالث عام 1716، إلا أنها كانت تطبع الكتب غير الدينية فقط، ثم شجع السلطان سليم الثالث طباعة كتب الدين والفقه وأمر بفتح مطبعتين أخريين.
أما الوطن العربي فلم يكن أفضل حالا، وكان أول بلد عربي عرف الطباعة هو لبنان, حيث قررت روما تأسيس مطبعة في الشرق العربي لنشر المذهب الكاثوليكي، فأقاموا مطبعة قرب طرابلس في دير قزحيا وقد طبع في هذه المطبعة كتاب واحد بالسريانية هو (المزامير) ثم اندثرت تلك المطبعة ولم يعد لها وجود، وفي عام 1706 عرفت سورية الطباعة لكنها ظلت بدائية لسوء الحالة الاقتصادية والثقافية، ويشار إلى أن بطريرك الروم أثناسيوس الثالث (1685 ـ 1724) أحضر المطبعة عام 1706 من مدينة بكرش (بوخارست) وبعد مطبعتي قزحيا وحلب أنشئت مطبعة دير الشوير في لبنان وأسسها وحفر حرفها الشماس عبد الله زاخر عام (1680 ـ 1734), والمطبعة الرابعة كانت في بيروت, وهي مطبعة القديس جاور جيوس للروم الأرثوذكس أنشأها الشيخ يونس نقولا جبيلي المشهور آنذاك بأبي عسكر, وكان ذلك عام 1787, وخامس هذه المطابع كانت مطبعة الشرق في الإسكندرية عام 1800 طبعت فيها جريدة«التنبيه» في 6/12/1800, وهي الجريدة العربية الأولى, وسادس هذه المطابع جلبت من لندن عام 1816 إلى دير الشرفة في لبنان على يد المطران بطرس جروة بطريرك السريان الكاثوليك, ومن مطبوعاتها العربية كتاب«مجمع الشرفة المعقود» سنة 1888 وكتاب«المباحث الجلية في اليترجيات الشرقية والغربية» للبطريرك أغناطيوس أفرام رحماني. ويبقى الدخول الأكبر للطباعة في الوطن العربي مربوطا بحملة نابليون على مصر، حيث أدخل معه المطبعة عام 1798، وخرجت تلك المطبعة مع خروج الفرنسيين أيضا، وبقيت مصر بعد هذا التاريخ دون مطبعة حتى عام 1819 عندما أمر والي مصر محمد علي بإنشاء مطبعة في مصر, وهي موجودة حتى يومنا هذا ومعروفة باسم المطبعة الأميرية ويعمل فيها ما يقارب أربعة آلاف عامل, وهي أكبر مطبعة في الشرق العربي.
وفي عام 1830 طبع أول كتاب في العراق، الذي تأخر بسبب الأوضاع الثقافية والاقتصادية المتخلفة, وفي الحجاز أنشئت سنة 1919 مطبعة باسم الملك عبد العزيز ثم سميت مطبعة أم القرى وكانت تطبع الصحيفة الرسمية, وفي الأردن عُرفت المطبعة عام 1928, حيث أنشأ خليل نصر مطبعة الأردن, وكانت تطبع جريدة«الأردن».
وفي عام 1877 وبناء على أمر السلطان عبد الحميد الثاني أنشئت في اليمن أول مطبعة وكانت تطبع صحيفة«صنعاء» باللغتين العربية والتركية، وفي الكويت أسست أول مطبعة عام 1956 كانت تابعة لوزارة الثقافة والإعلام. لقد تطورت الطباعة في الشرق العربي على مراحل، فبعد أن كانت الآلات تدار باليد أصبحت تدار بالكهرباء، وبعد أن كانت الآلة بدائية تعتمد على عامل الطباعة يدوياً ثم تطورت الآلة لتصبح آلية بحيث يوضع مجموعة من الورق تسحب بطريقة شفط الهواء وتسليمها لملاقط أتوماتيكية, ولها قدرة على طبع نحو أربعة آلاف ورقة في الساعة، أي من (25 إلى 30 ألف ورقة في اليوم). كما تطور صف الحروف اليدوي حيث أصبح آلياً, بعد أن صُنعت ماكينات الإنترتايب والمونتايب، فكانت هذه الآلات نقمة على عمال تنضيد الحروف لسرعتها ووفرة إنتاجها، ورافق تطور الحروف صناعة الزينكوغراف والكليشيهات. وفي نهاية الستينيات قفزت الطباعة قفزة جديدة, وهي الطباعة التصويرية (الأوفست), وهي آلات سريعة ودقيقة تطبع عدة ألوان في آن معاً, وفي السبعينيات تم اختراع الكمبيوتر ليلغي الأحرف سواء باليد أو بالآلة، ونقل الطباعة إلى عالم التكنولوجيا، حيث دخلت العقول الإلكترونية في الطباعة وكانت الطباعة مقصورة على طباعة الورق أما الآن فيطبع على التنك والخشب والقماش والأجسام ذات الأشكال المختلفة، ومع تطور الطباعة تقلص حجم العمالة في الشرق العربي من حيث الكم والخبرة، ولم يعد للعامل مكاناً في المطبعة إذا لم يدرس الطباعة ويصقل علمه بعمله الميداني.
بدايات النهضة ونور الطباعة
تشير كتب التاريخ الاجتماعي إلى أن النهضة في العالم العربي بدأت مع تولي محمد علي حكم مصر عام 1805، وعلى جميع المستويات السياسية، الحربية، الاقتصادية، الثقافية، والاجتماعية، حين أطلق عبارته الشهيرة«تعليم العباد لعمار البلاد»، ثم دعمها بإرسال البعثات التعليمية إلى الخارج في فترة مبكرة من حكمه لتلقي العلوم في شتى جوانب المعرفة؛ فأولى ثمار المطبعة هي نشر العلم والمعرفة بوصفه سلاحا للتقدم بين الأمم، وبدأت الطباعة بالعناية بالكتب الدراسية في العلوم العسكرية والطبيعية، بخاصة في الطب والرياضيات جنبًا إلى جنب مع كتب العلوم الإنسانية، ومن أهمها تلك الأعمال التي عمد رفاعة الطهطاوي إلى ترجمتها، ويلاحظ أن ترجمة هذا النوع من المؤلفات نشط خلال الأربعينيات بعد أن تقلص الجيش المصري، ففتحت أبوابا مختلفة في اتجاهات تكوين المثقف الجديد في مصر وبنائه بدعائم ثقافة مدنية معاصرة، وإلى جانب ذلك لعبت المطبعة دورًا مهما في توسيع طبقة المثقفين، وكان لهذه الطبقة الجديدة – كما يرى الدارسون – الدور الأكبر في تغيير النمط الفكري الذي كان سائدا آنذاك، كما أنها كانت تمثل ركيزة أساسية في صناعة وتحديث المجتمع المصري من ازدياد إصدارات المطبعة في شتى المجالات، ما كان له الأثر البالغ في ازدياد عدد المدارس، بخاصة في عهد الخديوي إسماعيل، الذي أولى اهتماما خاصا بتعليم الفتاة تأكيدًا على الدور المحتمل للمرأة في تلك الفترة، والمؤكد فيما بعد.
الصحافة نتاج المطبعة
لقد أدى اتساع قاعدة طبقة المثقفين الجدد إلى ظهور بصمات واضحة وجلية على مجال الطباعة والنشر وكذلك الصحافة، فمع ازدياد عدد المدارس التي أُنشئت في عهد الخديوي إسماعيل، ازداد عدد المثقفين، ما أدى إلى التوسع الهائل في كمية الكتب المطبوعة الحكومية والخاصة، وظهر كثير من المطابع الخاصة سواء للمصريين أم للأجانب، وبذلك تحولت الطباعة من أداة حكومية تتحكم فيما تنشره للناس، بحيث يكون موافقًا ومسايرًا لسياستها إلى أداة مجتمعية في أيدي الشعب، حيث أصبح كثير من أفراده على علم بما يجري في الداخل والخارج. ويتضح ذلك من كثرة عدد الكتب التي نشرت في عهد الخديوي إسماعيل، وأعداد الصحف التي طبعت في عصره، سواء أكانت حكومية مثل«الوقائع المصرية»، أم كانت أهلية وأولها وأهمها: صحيفة«وادي النيل»، وكذلك انتشرت مطابع المصريين إلى جانب مطبعة بولاق التي كان لها دور بارز في مسيرة التقدم والتطوير المستمر لثقافة المجتمع المصري، فلقد كانت مطبعة بولاق بداية لتاريخ الطباعة في مصر، فما بدأت المطبعة عملها، حتى تلتها مطابع أخرى كثيرة، وكأن أهل مصر كانوا يبحثون عن باب المعرفة منذ أزمان بعيدة، وكانت مطبعة بولاق طاقة النور التي انتظروها طويلاً، فعرفوا من خلالها أن المطبعة هي طريق الخروج من عهود الظلام الطويلة التي رزحوا فيها أزمانًا إلى عهد جديد من الوعي بشرت به طباعة الكتب والصحف التي أخرجتها، وفي كتاب«الكتاب العربي المطبوع من الجذور إلى مطبعة بولاق» يرى مؤلفاه؛ الدكتور خالد عزب وأحمد منصور، أن مطبعة بولاق كانت بحق بوابة العبور التي اجتازت مصر عبرها عصرًا من الظلام والتخلف والضعف في كل جوانب الحياة إلى عصور أخرى تشرق فيها شموس المعرفة والازدهار والقوة في جوانب الحياة المختلفة، فكان لها الأثر الجليل في حياة المصريين, مزارعين ومثقفين، بسطاء ورجال دولة، فقراء وأغنياء، فالعلم هو الوسيلة التي يرقى بها الإنسان إلى مرتبة التقدم والرقي، ويذكر مؤلفا الكتاب أيضا أن المطبعة ظلت تابعة للدائرة السنية إلى أن انتهى عصر إسماعيل وتولى حكم مصر الخديوي توفيق، وكانت الحركة الوطنية لا تزال حديثة العهد وكان الشعور القومي قد أخذ يشتد فعملت الحكومة على استرداد مطبعة بولاق إلى حوزتها خشية استخدام المطبعة في نشر الوعي السياسي والثقافي بين أفراد الشعب المصري، واستمر حال المطبعة بين التدهور والازدهار إلى قيام ثورة 1952، فمع قيام الثورة أنشئت وزارة الصناعة عام 1956م، وضمت إليها مطبعة بولاق تحت اسم» الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية»، وما زالت المطبعة تلبي احتياجات الدولة من أنواع المطبوعات كافة، إلى جانب إسهامها في تنشيط حركة الطباعة والنشر في مصر والشرق الأوسط من خلال إصداراتها المختلفة. ويرى الكاتب الفلسطيني محمد سليمان أن الطباعة لم تتجاوز الدائرة التي كانت تراوح حولها إلا في النصف الثاني من القرن الـ 19، وذلك استجابة موضوعية لاتساع أنشطة لجان المطالبة بالإصلاح؛ وتبلور رؤيتها للتغييرات المنشودة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية لإرغام الحكومة على القبول بمفهوم تحديث النظام، وكتفاعل موضوعي مع حقائق التطور الملحوظ في مسيرة حركة النهضة القومية العربية وتوضح أهدافها السياسية واتضاح غاياتها الاجتماعية والثقافية. فقد كانت البلاد العربية في المرحلة التي تمتد من بداية النصف الثاني من القرن الـ 19 حتى إعلان الدستور عام 1908، تحاول تحرير لغتها من بقايا المفردات التركية، لتسقط عن كواهلها بشكل تدريجي كوابيس ثقافة مرحلة الانحطاط، فما إن بدأت المطابع عملها، حتى صار الكتاب غنيمة يحصل عليها كل من أراد أن يقرأ أو يتعلم، وأدى ذلك إلى رخص أسعار الكتب، ولم يتوقف الأمر عند البعد المادي لسعر الكتاب بل قاد ذلك عملية تبدّل ثوري في نظام المدارس، حيث صار لكل تلميذ كتابه، وأصبح ممكنا للمدارس أن تعتمد على الكتب المدرسية المطبوعة، وشكل ذلك التحول النواة الأولى لظهور المدارس الحديثة، بعد أن كانت الكتاتيب تحتكر الورق والحروف، وبعد عام 1820 أي بعد أن دخلت الكتب في ماكينة الطباعة انكسر لأول مرة حكر النخبة للمخطوطة، وحدثت عملية تأميم لذوق جمالها الخطي لمصلحة المضمون الذي صار متاحا للجماهير، ففقدت المخطوطة هيبتها المعرفية التي كانت تزينها بجمال الشكل. وفي الكتاب الذي نشره مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بعنوان» ندوة تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر» نجد من يرى أن انتشار طباعة الكتب أدت إلى المساواة بين قدرة الأقل والأوفر حظا في الوصول إلى الكتب، منابع القوة المعرفية، ولم يكن امتلاك الكتاب على المستوى الشعبي انتصارا للذين لا يملكون ثمن المخطوط فقط، بل أدى ذلك إلى اتساع طبقة المثقفين التي مثلت ركيزة أساسية في تحديث المجتمعات العربية، ولم تقتصر إنجازات هذه المرحلة عند مجال تأليف الكتب والترجمات, بل تطورت إلى حراك ينقل معرفة الآلات وعلومها إلى العالم العربي، ما أدخله في ديناميكية حضارية ذات إيقاع جديد، يتناغم مع إيقاع الآلة المتسارع بكل ما يحمله من رسائل ثقافية جديدة، تخرجه من طور الركود إلى عوالم رحبة، ومن انغلاق الوعي المحلي إلى الوعي الإنساني على اختلاف الحضارات وتنوعها.
صحف مطبوعة ووعي متسارع
أشاعت المطبعة منذ ظهورها ديمقراطية التعليم والثقافة، عندما حولت الكتاب من المخطوطة النادرة إلى الوفرة العددية الهائلة، ولأكثر من ذلك أنها شهرت سيف الصحافة المكتوبة في وجه السلطة، قبل أن تستطيع الفئات الاجتماعية المسيطرة إدخال هذا السلاح الإعلامي المخيف في غمد الطاعة.
ويرى أديب مروة في كتابه«الصحافة العربية نشأتها وتطورها» أنه ومع حملة نابليون على مصر، انتقل كثير من الثقافة الغربية إلى الثقافة العربية، من بينها فكرة الصحافة المكتوبة وإصدار الجرائد، فنشأت صحيفة«التنبيه» أول صحيفة عربية، وأسهم المترجمون اللبنانيون في تحريرها بشكل كبير. أما أول صحيفة عربية يصدرها عربي باسمه فهي جريدة«السلطنة» التي أنشأها اللبناني إسكندر شلهوب في إسطنبول عام 1857، ثم نقلها إلى القاهرة لكنها لم تعمر سنة واحدة. ونتج عن اختلاط اللبنانيين المبكر بالأوروبيين وتأثرهم بهم تفوقهم في مجال الصحافة. ويعتبر كثير من المؤرخين أن بداية الصحافة العربية الحقيقية جاءت على يد خليل الخوري بصحيفته الشعبية«حديقة الأخبار»، حيث إن كل ما سبقها كانت جرائد حكومية تنشر آراء الحكومة دون غيرها. وجاء قانون الصحافة الذي صدر في مصر سنة 1881 ليقيد طباعة الصحف بشكل كبير، ما سبب إحباطاً للعاملين في الصحافة المصرية، وكان ذلك يصب بالطبع في مصلحة الاحتلال البريطاني الذي كان يملك السيطرة التامة على الإعلام. وحتى يومنا هذا ما زالت للرقابة سلطة كبيرة في عديد من الدول العربية، في الوقت الذي فتحت فيه الصحافة التلفزيونية والصحافة الإلكترونية على الإنترنت المجال واسعاً لكل من يريد التعبير عن رأيه بكل صراحة. كما أدى انتشار المطابع إلى ظهور جنس الصحف والمجلات التي تعالج مشكلات العربي عبر الزمان والمكان، ما رفع من مقدار وعي الإنسان وقدرته النقدية للأحداث المعاصرة له وتحليلها، وهكذا أسهمت المطابع في تحرير الشعوب العربية من حكر سيادة اتجاه الرأي الواحد، وأصبح ممكنا للثقافات المُهمّشة ذات الرأي الآخر أن تدخل الساحة الثقافية وتدلي بدلوها وتبدي رأيها، وزاده ذلك في أن أصبحت لديه القدرة على استيعاب حجم التشعب والاختلاف في مجتمعاته وبتعدد هوياته. إن المشوار الذي خاضه العربي في جدل التغيير العربي الإسلامي في عصر الآلة مشوار ثري بتنوع معالجاته لشؤونه من منظور سياسي، ديني، اجتماعي واقتصادي، كما فرضت الآلة خطابات غير مادية متنوعة أسهمت في تكوين هوية معرفية مرتبطة بالآلة وبهوية الإنسان الذي يدور في فلكها.
ويرى الدكتور سهيل الملاذي في كتابه«الصحافة الشامية المهاجرة وأعلامها في العهد العثماني», أن الصحافة عند العرب، اتخذت قديماً مظاهر متعددة مارسوها عبر أساليب الإعلام المعروفة كإذاعة الأخبار، ونظم الأشعار وروايتها ونشرها على أستار الكعبة، وعبر الأسواق التجارية، وبرزت الصحافة العربية بالمفهوم العصري مطلع القرن الـ 19، حين صدرت في مصر صحيفة«المنبه» إثر حملة نابليون، وامتاز معنى الصحافة عما كان معروفاً, إذ أصبحت أوراقاً مطبوعة تنشر الأخبار والعلوم المختلفة، وتروي سير الأحداث، وتنتقد وتعبر عن أفكار الرأي العام وتعرض على الناس في أوقات معينة شراء أو اشتراكاً، ولم يكن الصحافيون في البدء يميزون في الاستعمال بين الجريدة والمجلة إلى أن تسلم الشيخ إبراهيم اليازجي إدارة«مجلة الطبيب» حيث اقترح إطلاق لفظة مجلة عليها، وتوالت الصحف العربية، حتى بلغ عددها سنة 1870 27 جريدة ومجلة في مختلف الأقطار. ويذكرنا الملاذي بأن الصحف التي استمرت هي الرسمية أو شبه الرسمية التي أنشأتها السلطنة العثمانية، أما الصحف الشعبية غير الرسمية فكانت قليلة، لأنها اضطهدت وأغلقت ولوحق أصحابها، ما اضطرهم إلى الرحيل خارج وطنهم ليمارسوا من هناك دورهم الصحافي الحر، ويخلص إلى أن الصحافة العربية ولدت على ضفاف النيل، وعاشت طفولتها على ساحل البوسفور، وتطورت وعرفت شبابها في مصر ثم نمت وانتشرت وازدهرت في أهم العواصم ومعظم البلدان شرقاً وغرباً. واللافت للانتباه أن الأغلبية ممن قاموا على إنشاء المطابع أو دور النشر العربية كانت من المسيحيين العرب, حيث كان لعديد منهم دور كبير في اللغة العربية, إذ برعوا فيها في تعليمها والكتابة فيها بينما يؤكد Paul Lunde في مؤلفه حول العرب والطباعة, وما أكده الباحث البحريني الدكتور محمد الزكري من أن فتوى مفتي الإمبراطورية العثمانية شيخ الإسلام عبد الله أفندي سنة«1716 بإلغاء عقبة الحاجز الديني بإجازة المطابع مع تقييدها، كان محصلة لنقاشات مطولة قاد مجهودها التنويري إبراهيم مُتـَفرّقـة (1674 ـ 1745) مع المفتي. اقتنع المفتي، فأجاز استخدام المطبعة لطباعة كتب الحكمة واللغة والتاريخ والطب والهيئة على أن تتعهد المطابع بعدم طباعة كتب الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام. وعندما لاحظت مؤسسة المشيخة العثمانية انتشار الكتب بين الإستنبوليين بسبب رخص أسعارها أصدروا فتوى أخرى تجيز طبع الكتب الدينية وآذنوا بطبع وتجليد القرآن الكريم» الأمر الذي يكشف لدينا أن وسيلة الإعلام تلك استخدمت استخداما دينيا في وقت ظهرت فيه بوادر الصراع الاستعماري والتبشير الديني.
د. يوسف الربابعة
عن صحيفة الاقتصادية السعودية