فنان من طراز فريد، أشهر فناني القرن بلا منازع وأعلاهم منزلة وأعظمهم قدرة وأكثرهم تنوعاً وأبعدهم أثراً في الإبداع والتجديد فهو رسام وفنان تشكيلي وخزاف مصمم ومزخرف، كان متعدد المواهب، متواصل النشاط، متجدد الرؤية، متقلب المزاج، وفير الإنتاج بقدر ما صنعت يداه من إبداعات فنيه قدرت بنحو عشرين ألف عمل منتشرة في كل أرجاء العالم.
بابلو بيكاسـو .. مبدع الجورنيكا
ولد الفنان التشكيلي بابلو بيكاسو عام 1881م وكان أبوه رساما ومعلما للرسم في اسبانيا ويقال أن أول كلمة نطقها بيكاسو كانت “قلم'”، في عام 1900م سافر لأول مرة من بلده برشلونة إلى باريس، فكان لها تأثير بالغ على أفكاره ورؤيته ومزاجه، وهو يخطو على أول طريقه الفني الطويل وأخذ يتردد مرارا على باريس في الفترة بين عامي 1900م و1904م وهى الفترة التي توافقت مع ما يسميها البعض “المرحلة الزرقاء'” لأنه أكثر فيها من استخدام اللون الأزرق الشفاف البارد في لوحاته، واختار لموضوعاته أفقر الأحياء حيث يقيم “المنبوذون” المعدمون من حثالة المجتمع، فاتشحت لوحاته بغلالة من الكآبة والحزن وإثارة الغيظ معا، أراد الفنان ”الإنسان” إبرازها وفى هذه الفترة الزمنية أيضاً أنجز كثيراً من أعمال الحفر الفنية تحمل كل هذه السمات.
وفي عام 1904م قرر الإقامة الدائمة في باريس وأصبح محور الارتكاز بين ناشئة الكتاب والمفكرين وفناني الطليعة ممن سيكون لهم شأن كبير في المستقبل وفى الفترة القصيرة بين عامي 1904م و1905م اتخذ فنه منحى جديداً أو مختلفاً فقد توارت من لوحاته الألوان الزرقاء متنوعة الدرجات، لتفسح مكاناً للألوان القرمزية والرمادية والوردية ولذلك أطلق عليها هواة التقسيم المرحلة الوردية ودخلت في لوحاته شخوص جديدة الراقص والبهلوان وخاصة مهرج السيرك.
وفى عام 1906م التقى بالفنان الفرنسي ” ماتيس ” ومع أنه أبدى إعجاباً بلوحات فناني الاتجاه “الوحشي” إلا أنه لم يتبع طريقة أو أسلوب أصحاب هذا الاتجاه في التعبير والزخرفة اللونية، وفى الفترة بين عامي 1906م و1907م اتجه بيكاسو نحو الفن الافريقى إذ تأثر بالتماثيل والأشكال الزنجية البدائية بينما أثار انتباهه بدرجة أكبر في تلك الفترة ما فاجأ به الفنان الكبير سيزان عالم الفن بلوحته الشهيرة “فتيات أفينيون” وفيها تشويه متعمد الصياغة في الشكل، وتتناقض تماماً مع كل القواعد التقليدية في مقاييس الجمال المعهودة آنذاك، فكانت بمثابة ثورة على المألوف، مثل ثورة ”الوحشيين” في مجال استخدام الألوان وإيحاءاتها وأصبحت اللوحة المرسومة غارقة في الغموض، عسيرة على الفهم، حتى من الفنانين التقليديين ومنعت اللوحات الحديثة الأسلوب والاتجاه من الاشتراك في المعارض الرسمية حتى عام 1937م لامس بيكاسو ذلك كله، وراح يطور، ويجدد ويتخذ لنفسه في كل محاولة أسلوبا خاصاً متميزاً سرعان ما ألقى ظلاله على مدارس الفن الحديث.
وكان بيكاسو المبشر بالأسلوب “التكعيبي” الذي نماه وطوره مع النان براك، وفي عام 1917م سافر بيكاسو مع صديقه الفنان الأديب جان كوكتو إلى روما لعمل تصميمات ملابس ومناظر باليه بعنوان “استعراض” وفى الأعوام التالية وضع تصميمات لمسرحيات باليه أخرى وقد أوحت إليه زيارته لروما أن يتخذ نهجاً جديداً في أعماله الفنية بعد مشاهدته لروائع التراث الفني الكلاسيكي الإيطالي، وظهر ذلك في أعماله التي أبدعها في أوائل العشرينيات لكنه تأثر أيضا باتجاه السريالية وان ظل محتفظاً برؤيته الذاتية التحليلية التي عصمته من الجنوح إلى اللاعقلانية، أو الاستغراق في تصوير الأحلام وما يدور في اللاوعي وكانت بداية ذلك مع لوحته “الراقصات الثلاث” عام 1925م وهى محاكاة ساخرة لاذعة لرقص الباليه الكلاسيكي وقد رسمها في فترة معاناته المؤلمة وتعاسته من زواجه الأول ثم استهواه عالم الأساطير، فانعكست على لوحاته التالية مثل لوحة “الحصان المحتضر”، و ولوحة “المينوطور” ولوحة “امرأة باكية”.
وفي هذه الفترة من أعوام الثلاثينيات أنجز أشهر أعماله العشرين ألفا على الإطلاق، وهى “جورنيكا”، لوحة جدارية ضخمة رسمها لتعرض في الجناح الأسباني بالمعرض الدولي في باريس عام 1937م وهى تعبير صارخ مفزع حزين عن تدمير القنابل لعاصمة إقليم الباسك “جورنيكا” -وهى موطنه الأصلي- أثناء الحرب الأهلية بين عامي 1936م و 1939م، والتي جاءت بفرانكو إلى الحكم المطلق، ثم أتبعها مماثلة في التعبير بلوحة “البيت المقبرة” وفيها إظهار لبشاعة الحرب وقسوتها المهلكة المخربة وفى هذا الصدد قال بيكاسو: “إن اللوحات لا ترسم من أجل تزيين المساكن، إنها أداة للحرب ضد الوحشية والظلمات”.
وقد توفي الفنان العظيم بابلو بيكاسو في يوم 8 أبريل من عام 1973م في مدينة موجان في فرنسا.