“يَحار الكاتبُ حين يدرس إسلاميات “العقاد” لأن الكاتب الكبير متعدّد الثقافة متنوّع المواهب، غزير الانتاج في اتجاهات كثيرة، تتصل من قريبٍ أو بعيدٍ بالحقل الإسلامي الذي أولاه أكبر اهتمامه، فأثمر في روضه دوحًا يانعًا يؤتي أشهى الثمار، وينفرد بسِمات خاصّة لا تُتاح لسواه”.!.
مؤرخ النهضة الإسلامية الدكتور “محمد رجب البيومي”[١]
يُعد الأستاذ “عباس محمود العقاد” [١٨٨٩-١٩٦٤م] من أكثر الكتاب المظلومين في أوساط التيار الإسلامي. ويرجع ذلك لعدة أسباب منها اقتران اسمه الدائم بالدكتور طه حسين [١٨٨٩-١٩٧٣م] الذي ولد معه في نفس العام، وبرز نجمهما معًا عاليًا في سماء الأدب والفكر والثقافة العربية في الوقت نفسه!..
وهو ما فطن إلى كُنهه الشيخ الجليل محمد الغزالي [١٩١٧-١٩٩٦م] فقال: «عندما أوازن بين “طه حسين” وبين “العقاد” من الناحية العلمية أجد “العقاد” أعمق فكرًا وأغزر مادةً وأقوم قيلًا، وأكاد أقول: إن الموازنة المجردة تخدش قدر “العقاد”»!.
ويضيف الشيخ “الغزالي”: ودون غمط لمكانة “طه حسين” الأدبية نقول: إنه واحد من الأدباء المشهورين في القرن الحالي له وعليه.. وحسبه هذا. بيد أنني لاحظت أن هناك إصرارا على جعل الرجل عميد الأدب العربي وإمام الفكر الجديد.. وهو ما لا يخفى أسبابه على أحد، حيث طالب بإقصاء الإسلام وأخلاقه وأحكامه، وعدم قبوله أساساً تنطلق الأمة منه وتحيا وفق شرائعه وشعائره في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”[*]..
«أما العقاد وإسلامياته الكثيرة فيجب دفنه ودفنها معه، ومع أن الرجل حارب الشيوعية والنازية وسائر النظم المستبدة، وساند الديمقراطية مساندة مخلصة جبارة، فإن العالم (الحرّ) ينبغى أن يهيل على ذكراه التراب، ليكون عبرة لكل من يتحدث فى الإسلام، ولو بالقلم!..فكيف إذا كان حديثا بالفكر والشعور، والدعوة والسلوك، والمخاصمة والكفاح؟.. هذا هو الخصم الجدير بالفناء والازدراء!.»[٢]..
Table of Contents
شهادة الشيخ الغزالي
وعلى الرغم من هذه الشهادة العظيمة من الشيخ “محمد الغزالي” فقد وقع كاتب كبير مثل الأستاذ أنور الجندي [١٩١٧-٢٠٠٢م] في وضع “العقاد” مع “طه حسين” في نفس سلة المتغربين في كتابه.
إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام ، حيث قال: «إن العقاد درس الفكر الإسلامي من خلال الفكر الغربي الذي تأثر به طويلاً»!.[٣]..
وهو ما يتنافى تماما مع ما كتبه الدكتور “محمد رجب البيومي” عميد كلية اللغة العربية في تأريخه المهم عن أعلام الأمة في العصر الحديث: «لم يُعرف عن الكاتب الكبير الأستاذ “العقاد” انحراف ديني في كل ما كتب على امتداد عمره البعيد بل كان قلمه بمنجاة مما تورّط فيه بعض الكبار من زملائه، حين أُخذوا في شبابهم الأول ببعض بهارج الاستشراق»!.[٤]
ولكن مع الأسف وجد كتاب الأستاذ “أنور الجندي” رواجاً كبيراً إبان صدوره في ثمانينات القرن الماضي حيث ذروة الصحوة الإسلامية وعنفوانها، فتأثر به جيل كامل رغم ما فيه من ظُلم لشخصيات أخرى غير “العقاد” قدّمَت للأمة وللمكتبة الإسلامية الشيء الكثير، مثل الدكتور “محمد عمارة” والأستاذ “فهمي هويدي” والمفكر الإسلامي “خالد محمد خالد” وهم الذين وضعهم الأستاذ “الجندي” في خانة العلمانيين والماركسيين أعداء الشريعة!.
وقد كان مما أخذ الأستاذ “أنور الجندي” على “العقاد” أنه لم يُدرك الفرق بين العبقرية والنبوة فوصف النبي ﷺ بما وصف به غيره من العظماء، مع أن النبي ﷺ يتميز بأنه نبي مرسل يوحى إليه!.[٥]..
وهو نفس ما ذهب إليه الشيخ الدكتور “محمد سعيد رمضان البوطي“، عندما قال في مقدمة سفره الماتع “فقه السيرة”: بأن المسلم لا ينبغي أن يحاول لحظة واحدة فهم حياة رسول اللهﷺ على أنه عبقري عظيم أو قائد خطير.. فهذا عبث ومعاندة للحقائق الكبرى التي تزخر بها حياة مُحمد عليه الصلاة والسلام»!.[٦]..
وهذا يأتي بنا إلى أحد أهم أسباب مظلومية “العقاد”، وهو الاكتفاء من الكِتَاب بعنوانه دون مطالعة مضمونه، وهو ما لا يوقع الظلم على الكاتب بقدر ما يُعدّ ثغرة فادحة في وعي الأمة وإدراكها الثقافي ولا أريد تكرار ما حذرت منه في مقال سابق تحت عنوان: خطورة الثقافة المبتورة ..
علامات مولد وعبقرية الدّاعي
فعندما نطالع كتاب “العقاد” في أول فصوله “علامات مولد وعبقرية الدّاعي” نجد الأستاذ يثبت النبوة والرسالة بوضوح وصراحة في أكثر من موضع مثل؛ «عالم يتطلع إلى نبي.. وأمة تتطلع إلى نبي.. ومدينة تتطلع إلى نبي، وقبيلة وبيت وأبوان أصلح ما يكونون لإنجاب ذلك النبي.
ثم ها هو ذا رجل لا يشركه رجل آخر في صفاته ومقدماته ولا يدانه رجل آخر في مناقبه الفُضلى التي هيَّأته لتلك الرسالة الروحية المأمولة في المدينة وفي الجزيرة وفي العالم بأسره»!.[٧]..
كما كان “العقاد” على عكس ما يظن الكثيرون يثبت الغيب والإيمان بجلاء ووضوح ولم يكن في ذلك تنحية للعقل ولكن بمزج عبقري بينهما يمتع الفؤاد ويشحذ الفكر. وانظر إلى حديثه عن أن الإيمان هو الهدف في النهاية وهو الغاية وهو السبيل أيضا..
ومن ذلك قوله: «لقد كان عليٌّ فتى يستقبل الدنيا، وكان أبو بكر كهلًا يدبر عنها، يوم أعانا محمدا في غار ثور … ولكنهما كانا معًا على أبواب غدٍ واحدٍ ورجاءٍ واحدٍ، يستوي فيه الفتى والكهل والشيخ الدالف إلى قبره، لأنه رجاء الإيمان لا رجاء العيان»!..
وهناك أمثلة كثيرة غير ذلك تؤكد أن الحديث كان عن نبي وليس عن مجرد شخص يتصف بالعبقرية والعظمة كما يظن البعض من المُكتفين بعنوان الكتاب!.
ويتبقى لنا بهذا الخصوص معالجة نقطة لا تقل خطورة وأهمية والتي تتمثل في النظر إلى الكاتب حسبما نريد منه أن يكتب وليس كما كَتبَ وأراد من وراء كتابه!.
فإن “العقاد” لم يستهدف في كتابه سيرة النبي ﷺ على طريقة العالم الفقيه ولا حتى الباحث المؤرخ وإنما كتبها من أجل هدف آخر بعيد كل البعد عن تقديرات أولئك المكتفين بالعنوان، وهو ما يخبرنا عنه الأستاذ في مقدمة الكتاب:
«.. فكتبناه ونحن نستحضر في الذهن تبرئة المقام المُحمدي من تلك الأقاويل، التي يلغط بها الأغرار والجهلاء عن حذلقة أو سوء نية.. ونظرنا اتفاقًا، فإذا بأطول الفصول فيه الفصلان اللذان شرحنا فيهما موقف مُحمد ﷺ من الحرب ومن الحياة الزوجية؛ لأنهما كانا مثار اللغط في كل ما ردده سفهاء الشانئين من الأصلاء والمُقتدين في هذا الباب …
فسيرى القارئ أن “عبقرية محمد” عنوان يؤدي معناه في حدوده المقصودة، ولا يتعداها. فليس الكتاب سيرة نبوية جديدة، تضاف إلى السِّيَر العربية والإفرنجية، التي حفلت بها “المكتبة المحمدية” حتى الآن؛ لأننا لم نقصد وقائع السيرة لذاتها في هذه الصفحات، على اعتقادنا أن المجال مُتسع لعشرات من الأسفار في هذا الموضوع، ثم لايُقال إنه استنفد كل الاستنفاد!.
إنما الكتاب تقدير “لعبقرية مُحمد” بالمقدار الذي يدين به كل إنسان، ولا يدين بها المسلم وكفى، وبالحق الذي يُثبت له الحب في قلب كل إنسان، وليس في قلب كل مسلم وكفى..
لهذا كان تقدير محمد بالقياس الذي يفهمه المعاصرون ويتساوى في إقراره المسلمون وغير المسلمين، نافعا في هذا الزمن الذي الْتَوَتْ فيه مقاييس التقدير..
ِّإنه لنافع لمن يقدرون محمدًا، وليس بنافع لمحمد أن يقدِّروه؛ لأنه في عظمته الخالدة لا يضار بإنكار، ولا ينال منه بغي الجهلاء، إلا كما نال منه بغي الكفار ..
ًوإنه لنافع للمسلم أن يقدر محمدًا بالشواهد والبينات التي يراها غير المسلم، فلا يسعه إلا أن يقدرها ويجري على مجراه فيها … لأن مسلمًا يُقدر محمدًا على هذا النحو، يُحب محمدًا مرتين: مرة بحكم دينه الذي لا يشاركه فيه غيره، ومرة بحكم الشمائل الإنسانية التي يشترك فيها جميع الناس..
وحسبنا من عبقرية مُحمد أن نقيم البرهان على أن محمدًا عظيم في كل ميزان: عظيم في ميزان الدين، وعظيم في ميزان العلم، وعظيم في ميزان الشعور، وعظيم عند من يختلفون في العقائد، ولا يسعهم أن يختلفوا في الطبائع الآدمية!.
ففي الأخير إذا رجح بمحمدٍ ميزان العبقرية، وميزان العمل، وميزان العقيدة؛ فهو نبيٌ عظيم وبطلٌ عظيم وإنسانٌ عظيم..»[٨]..
رأي العلامة محمود شاكر
وبعد .. لا يجب أن نترك كتاب “عبقرية محمد” قبل أن نذكر ما كتبه العلامة المحقق “محمود شاكر” بهذا الخصوص في مقاله بمجلة الرسالة سنة ١٩٤٠م التي كانت تدور حول خطر الاستشراق والمستشرقين على الأمة الإسلامية، حين قال: «كتب الأستاذ “العقاد” في العدد الهجري للرسالة مقالة عن عبقرية مُحمد ﷺ العسكرية ثم عن عبقريته السياسية فاستوفى القول في ذلك وأشبعه، وردّ كثيرًا من الشُبه التي كان يلبس بها الأعاجم على الأغرار من شبابنا. وليس يستطيع مستشرق أن ينفذ في فهم التاريخ العربي، والاجتماع الإسلامي، والفلسفة الإسلامية، كما يستطيع كاتب قارئ مطلع كالأستاذ “العقاد”.
ونحن نرجو ألا يُخْلِي الأستاذ “العقاد” مباحثه من هذا النوع الجديد من الفكر في تاريخ تنقذف عليه كُلّ يوم جهالات كثيرة مُفسِدة ليس لها أصل ولا بها قوة.»!.[٩]..
ولم يُخيّب “العقاد” رجاء “محمود شاكر” فأنتجت قريحته العبقرية عشرات الكتب التي سدت ثغرة كبيرة في الفكر الإسلامي والتي استفاد منها النابهون والأذكياء من أهل العلم والدراية واستدلوا بها في دحض وإبطال حجج المرجفين.. مثلما فعل العلامة الفقيه الدكتور “يوسف القرضاوي” -رحمه الله- عندما نقل في درته الجامعة “فقه الجهاد” من كتاب الأستاذ العقاد: “حقائق الإسلام وأباطيل خصومه”، وفيه دفاع مقنع بالعقل والحجج والبراهين عن فرية #انتشار_الإسلام_بالسـيف وغيرها من الافتراءات!.[١٠].
الحكم على الأشحاص
في النهاية أحب أن أُأكد على أن الحكم على الأشخاص يكون على المجمل. وأن الأستاذ “العقاد” ومن هو فوقه أو دونه من المفكرين، يؤخذ منهم ويرد عليهم، وما رزقوا العصمة ولا زعمت لهم يوما.. ولكني لا أحب أن تكون وظيفتي مضغ الأخطاء وتتبع العثرات، والتعامي عن الحسنات، خاصة إذا كانت بالمبادئ والأفكار، أما الأشخاص وأحوالهم فحسابهم عند الله ..
بقلم/ أحمد الشريف