
يُعد فريتس هابر (Fritz Haber) واحدًا من أبرز علماء الكيمياء الفيزيائية في القرن العشرين. وُلد في مدينة بريسلاو (Breslau) الألمانية عام 1868، وتمكّن من ترك بصمة عميقة في مجالي الكيمياء والفيزياء، بفضل اكتشافاته التي أثرت في حياة البشرية بطرق متناقضة. فقد ساهم من جهة في إنقاذ ملايين الأرواح عبر ابتكار طرق لإنتاج الأسمدة، ومن جهة أخرى ارتبط اسمه باستخدام الغازات السامة في الحروب. هذه الازدواجية جعلت إرثه العلمي والإنساني مثار جدل واسع حتى اليوم.
Table of Contents
فريتس هابر .. النشأة والتعليم
نشأ فريتس هابر في أسرة يهودية ثرية بمدينة بريسلاو، وكان والده يعمل في تجارة الأصباغ. تلقى تعليمه الأولي في مدارس المدينة قبل أن يلتحق بجامعة هايدلبرغ لدراسة الكيمياء. بعدها انتقل إلى جامعات برلين وزيورخ ليصقل معارفه العلمية. تميّز منذ البداية بشغف كبير بالبحث والتجريب، الأمر الذي فتح أمامه أبوابًا واسعة في عالم الكيمياء الفيزيائية.
ابتكار عملية هابر-بوش
يُعتبر الإنجاز الأهم في مسيرة فريتس هابر هو تطوير عملية هابر-بوش (Haber-Bosch Process) بالتعاون مع الكيميائي كارل بوش. تقوم هذه العملية على تثبيت النيتروجين من الهواء ليتفاعل مع الهيدروجين تحت ضغط وحرارة مرتفعين لإنتاج الأمونيا.
أهمية هذا الابتكار
-
وفّر أساسًا لإنتاج الأسمدة النيتروجينية بكميات ضخمة.
-
ساعد على زيادة الإنتاج الزراعي بشكل غير مسبوق.
-
أسهم في إطعام مئات الملايين من البشر حول العالم، ما جعل البعض يصف هابر بأنه “الرجل الذي أعطى الخبز للبشرية”.
دوره في الحرب العالمية الأولى
على الجانب الآخر، ارتبط اسم فريتس هابر باستخدام الغازات السامة كسلاح في الحرب العالمية الأولى. فقد كان مديرًا لمركز الأبحاث الكيميائية الألماني، وقاد فريقًا طوّر الغازات الخانقة مثل الكلور والفوسجين. وفي معركة “إيبر” عام 1915 استخدم الجيش الألماني الغاز السام لأول مرة بشكل واسع، ما أدى إلى مقتل وإصابة عشرات الآلاف.
المأساة الشخصية
ارتبط هذا الحدث بمأساة إنسانية في حياة هابر؛ إذ انتحرت زوجته كلارا إيمرواه، التي كانت هي أيضًا كيميائية، احتجاجًا على دور زوجها في تطوير أسلحة الدمار الكيميائي. شكّل ذلك صدمة كبيرة في حياته الشخصية، رغم أنه استمر في العمل مع الجيش الألماني.
جائزة نوبل والجدل حولها
في عام 1918، حصل فريتس هابر على جائزة نوبل في الكيمياء تقديرًا لاكتشافه عملية تثبيت النيتروجين وإنتاج الأمونيا. ورغم أهمية هذا الإنجاز العلمي، إلا أن منحه الجائزة أثار جدلاً واسعًا نظرًا لارتباط اسمه بالأسلحة الكيميائية. فقد رأى البعض أن هابر يجسد التناقض بين خدمة البشرية بالعلم وتدميرها باستخدامه.
مسيرته بعد الحرب
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، واصل هابر عمله في الأبحاث الكيميائية. حاول لاحقًا تطوير طرق لاستخراج الذهب من مياه البحر لتعويض ألمانيا عن خسائرها في الحرب، لكن المشروع لم يحقق النجاح المطلوب. كما استمر في أبحاثه حول المبيدات والمواد الكيميائية، والتي أصبحت لاحقًا جزءًا من منتجات صناعية واسعة الاستخدام.
حياته الأخيرة ونهايته المأساوية
مع صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا، وجد فريتس هابر نفسه في وضع صعب بسبب أصوله اليهودية، رغم خدمته للدولة الألمانية. اضطر للاستقالة من منصبه عام 1933، وغادر البلاد باحثًا عن ملاذ علمي جديد. انتقل إلى بريطانيا ومنها إلى سويسرا، لكنه لم يتمكن من الاستقرار. وفي عام 1934، توفي في مدينة بازل السويسرية عن عمر ناهز 65 عامًا، وحيدًا ومثقلًا بالجدل حول إرثه العلمي والأخلاقي.
إرث فريتس هابر: بين الجنة والجحيم
يُعتبر إرث فريتس هابر متناقضًا بامتياز:
-
من جهة، أنقذ اكتشافه لتثبيت النيتروجين مليارات البشر من الجوع والمجاعة.
-
من جهة أخرى، فتح الباب أمام الاستخدام المدمّر للعلم عبر الغازات السامة في الحروب.
هذا التناقض جعل منه شخصية مثيرة للجدل، إذ يراه البعض منقذًا للإنسانية، فيما يعتبره آخرون رمزًا للعلم المسخّر للتدمير.
خاتمة
إن سيرة فريتس هابر تجسد بوضوح الازدواجية الكامنة في العلم: فهو أداة بيد الإنسان يمكن أن تُستخدم للبناء كما يمكن أن تُستخدم للهدم. فقد أعطى البشرية خبزًا عبر الأسمدة، لكنه منحها أيضًا سلاحًا قاتلًا عبر الغازات السامة. ومع ذلك، فإن تأثيره العلمي لا يمكن إنكاره، إذ تبقى عملية هابر-بوش إحدى أعظم الابتكارات الكيميائية التي غيّرت وجه الزراعة والصناعة، وأسهمت في تشكيل العالم الذي نعرفه اليوم.