- أنشد الشعر وهو ما يزال طفلاً في سن الثالثة وكتب “تراجيديا شعرية” فــي عامه الثاني عشر
- قضى 11 شهرا معتقلا في سجن “الباستيل.. وتفاخر فيما بعد بأن زنزانته “أعطته الوقت ليفكر بهدوء”!
- تعرض للاعتقال أكثر من مرة فاختار أن يعيش في “منفيا” باختياره في إنجلترا لمدة 3 أعوام
- لم يلق أي تقدير رسمي خلال حياته.. وبعد وفاته اعتبرته “الجمعية الوطنية الفرنسية” بطلا قوميا
- كُتب على قبره: “هنا يرقد رجل حارب الملحدين والمتزمتين معا وأوحى في كل كتاباته بـ”روح التسامح”
فيلسوف التنوير .الأديب والشاعر والفيلسوف الفرنسي المعروف فرانسوا فولتير، واحد من أشهر الأدباء الساخرين في العالم، وأكثرهم إثارة للجدل، وقد أطلق عليه مؤرخو الأدب لقب “فيلسوف التنوير”، نظرا لإسهامه الكبير في مهاجمة الأفكار الجامدة والمتزمتة في عصره، وهو ما أسهم في اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى فيما بعد.
ورغم ذلك، لم يحظ فولتير خلال حياته بالتقدير، بل عاش مغضوبا عليه من قبل الكنيسة والسلطات الفرنسية معا، بسبب هجومه اللاذع على مساوئ عصره، كما تعرض للسجن أكثر مرة في معتقل “الباستيل” الرهيب، استمرت إحداها 11 شهرا متصلة، لكن ذلك لم يوهن عزيمته، بل إن تفاخر بعد خروجه من السجن بأن زنزانته “أعطته الوقت ليفكر بهدوء”!
وظل فولتير طوال حياته “واحدا ضد الجميع”، ومدافعًا صريحًا عن الإصلاح الاجتماعي على الرغم من قوانين الرقابة الصارمة والعقوبات القاسية التي كان يتم تطبيقها على كل من يقوم بخرق هذه القوانين. وباعتباره ممن برعوا في فن المجادلة والمناظرة الهجائية، فقد كان دائمًا ما يحسن استغلال أعماله الأدبية لانتقاد الكنيسة والمؤسسات الاجتماعية الفرنسية في عصره.
وُلِد فرانسوا ماري أرويه الشهير ﺑ”فولتير” في باريس عام 1694، وكان الأخ الأصغر ضمن خمسة أطفال، والطفل الوحيد الذي عاش منهم، لأب كان يعمل موثقًا عامًا وموظفًا في وزارة المالية، فيما كانت والدته ماري دو مارت تشتهر بجمالها وذكائها، وهي تنحدر من أصول أرستقراطية نبيلة، ومنها ورث فولتير ترفعه عن الصغائر وحسه الأدبي الساخر، حيث أنشد فولتير الشعر وهو ما يزال طفلاً في سن الثالثة، وكتب تراجيديا شعرية فــي عامه الثاني عشر.
سجين “الباستيل”فولتير
تلقى فولتير تعليمه الأوليّ في إحدى مدارس الطائفة اليسوعية، وعلّم نفسه اللغة اللاتينية، ثم أتقن اللغتين الإسبانية والإنجليزية فيما بعد، بجهد ذاتي أيضا.
وبعد أن أنهى دراسته، أراد أن يصبح كاتبًا، على عكس رغبة أبيه حيث أراد له أن يدرس القانون كعادة أبناء الطبقة الأرستقراطية في باريس وقتها، وأرسله والده إلى باريس للعمل في مهنة “مساعد محامِ” لكنه كان يقضي معظم وقته في كتابة الشعر الهجائي الذي استهدف مشاهير عصره، فأوقعه ذلك في متاعب مع السلطات، فشعرت أسرته بأنه يقضي على مستقبله بنفسه، وعندما اكتشف والده الأمر أرسله لدراسة القانون؛ ولكن هذه المرة في المقاطعات الفرنسية البعيدة عن العاصمة.
ولكن فولتير استمر في كتابة المقالات والدراسات التاريخية التي لم تتصف دائمًا بالدقة على الرغم من أن معظمها كان دقيقًا بالفعل. وأكسبه الظرف الذي كانت شخصيته تتصف به شعبية في دوائر العائلات الأرستقراطية التي كان يختلط بها.
واستطاع والد فولتير أن يحصل له على وظيفة سكرتير السفير الفرنسي في هولندا، حيث وقع فولتير في هوى لاجئة فرنسية تدعى كاثرين دي نوير، فخططا للفرار معًا إلى انجلترا، ولكن تم إجبار فولتير على العودة إلى فرنسا مجددا.
لم تكن علاقة الكاتب بأبيه جيدة، لأنه كان يحاول إثناءه عن الاشتغال بالأدب، وإجباره على العمل المهني. ولكي يظهر رفضه لقيم ومبادئ أبيه، تبرّأ في مطلع حياته الأدبية من اسم عائلته وتبنّى اسم “فولتير” إلى الأبد.
ودرات معظم السنوات الأولى من حياة فولتير في فلك واحد وهو العاصمة الفرنسية باريس. ومنذ تلك السنوات المبكرة، وما تلاها من سنوات عمره، دخل فولتير في مشكلات مع السلطات بسبب هجومه اللاذع المتحمس على الحكومة، وأدت به هذه الأنشطة إلى التعرض مرات عديدة للسجن، منها 11 شهرا متصلة في سجن “الباستيل” الشهير، وتفاخر الكاتب فيما بعد بأن زنزانته “أعطته الوقت ليفكر بهدوء”!
ويقول المؤرخون إن طريقة فولتير الاستفزازية في كتاباته والمثيرة للسخرية أوقعت به في مشكلة أخرى مع السلطات في آذار 1716، حيث تم نفيه من “باريس” إلى الريف بعد كتابته قصائد تسخر من عائلة الوصي على العرش الفرنسي.
المنفى الإنجليزي
أصبح فولتير ثرياً بطريقة غريبة، ومن خلال استغلاله لخلل في “اليانصيب الوطني الفرنسي”، ففي عام 1729 شكّل الرجل فريقاً مع آخرين منهم علماء رياضيات، ليستغلوا ثغرة مربحة في اليانصيب، حيث أعلنت الحكومة عن جوائز ضخمة لمن يفوز بالمسابقة كل شهر، ولكن كان هناك خطأ في الحساب، حيث كانت المدفوعات أكبر من قيمة كل البطاقات، فاستغلوا هذه الثغرة وحققوا مكاسب هائلة، وحصل فولتير بذلك على ما يقارب 500 ألف فرنك فرنسي سمحت له أن يتفرّع باقي حياته لمواصلة مسيرته الأدبية دون خوف من الحاجة المادية أو العوز.
وتعرض الكاتب للسجن مرة أخرى لفترة قصيرة في “الباستيل” عام 1726 بسبب خلافاته مع أحد الأرستقراطيين، ولكي يهرب من هذه المتاعب المستمرة، نفى نفسه طواعية إلى انجلترا حيث بقي هناك لمدة 3 سنوات.
وتركت التجارب التي مر بها فولتير في إنجلترا أكبر أثر في أفكاره، فقد تأثر بالنظام البريطاني الدستوري مقارنةً بنظيره الفرنسي المطلق، وكذلك بدعم الدولة لحرية التعبير عن الرأي وحرية العقيدة، كما تأثر بالعديد من كتاب عصره الذين ينتمون للمدرسة الكلاسيكية الحديثة، وزاد اهتمامه بالأدب الإنجليزي الأقدم خاصةً أعمال وليم شكسبير التي لم تكن قد نالت قدرًا كبيرًا من الشهرة في أوروبا في ذلك الوقت.
وبعد أن أمضى قرابة 3 سنوات في المنفى، عاد إلى باريس وقام بنشر آرائه حول الموقف البريطاني من الحكومة ومن الأدب ومن العقيدة في صورة مجموعة من المقالات التي تأخذ شكل الخطابات، معتبرا فيها أن الملكية الدستورية البريطانية أكثر تقدمًا واحترامًا لحقوق الإنسان خاصةً في الجانب الذي يتعلق بالتسامح الديني، من نظيرتها الفرنسية، ولاقت هذه الخطابات اعتراضات كبيرة في فرنسا لدرجة القيام بإحراق النسخ الخاصة بهذا العمل وإجبار صاحبها على مغادرة فرنسا مرة أخرى.
الكاتب الاستثنائي
كان الرجل كاتباً استثنائيا، غزير الإنتاج، حيث كتب أكثر من 50 مسرحية، وعشرات الأطروحات عن العلوم، والسياسة، والفلسفة، والعديد من الكتب التاريخية والتي تحوي معلومات عن كل شيء بدءاً بالإمبراطورية الروسية إلى البرلمان الفرنسي، كتب أكثر من 20 ألف خطاب إلى أصدقائه ومعاصريه في ذلك الوقت، وكان يمضي حوالي 18 ساعة يومياً في الكتابة، ويشرب كميات كبيرة جداً من القهوة تصل إلى 40 كوبا في اليوم!
وظهرت موهبة فولتير الشعرية في بداية حياته، وكانت أول أعماله المنشورة من الشعر، وكتب قصيدتين طويلتين؛ وهما إضافة إلى العديد من المقطوعات الشعرية، وجاءت أعماله في البداية مكتوبة بشكل يحاكي أعمال “فيرجل”، وكذلك جاءت بعض قصائده وكأنها محاكاة ساخرة يُهاجم فيها بعض المفاهيم الدينية والتاريخية؛ أما أعماله التي صاغها نثرًا، والتي جاءت عادةً على هيئة كُتيبات هاجم فيها التفاؤل الديني والفلسفي، وأعمال أخرى هاجمت بعض الأساليب الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر، كما هاجم فيها الأفكار التي يتم تناقلها عبر الأجيال والخاصة بالقيم والمبادئ التي تقوم عليها العقيدة الأرثوذكسية.
وتشترك كتابات فولتير الأدبية مع أعماله الأخرى في استخدامها بوجه عام لأسلوب النقد، إضافة إلى التنوع في الموضوعات التي تناولها، فقد كان يسبق كل أعماله الأساسية تمهيد يمكن اعتباره نموذجًا لنبرة السخرية اللاذعة التي تميز أعماله، والتي لم تمنعه من استخدام تلك اللغة العادية المستخدمة في أحاديث الناس، ويعتبر أكبر الأعمال الفلسفية التي أنتجها هي المقالات التي خصصها لانتقاد المعاهد السياسية الفرنسية، وأعدائه الشخصيين، والكنيسة الكاثوليكية، كذلك انتقد السياسة الاستعمارية الفرنسية في أمريكا الشمالية.
وتم حظر العديد من أعمال فولتير المشهورة خصوصا المتعلقة منها بالدين ونظام العدالة الفرنسي، حتى أن الحكومة الفرنسية وقتها كانت تطلب كتبا معينة من مؤلفاته لتحرقها، إلا أن الكثير من أعماله تمت كتابتها في الخارج للتهرب من هذه الرقابة وحتى أنه نشر مؤلفاته تحت أسماء مستعارة.
وترك فولتير الكثير من الأعمال والكتابات المثيرة للجدل، كانت بدايته مع رواية «أوديب» وهي أول أعماله المسرحية، ومن أعماله أيضًا روايته الأكثر شهرة “كانديد” “التفاؤل”، وقصته “صادق” التي ترجمها الدكتور طه حسين إلى اللغة العربية، ثُم كتاب «قاموس عن الفلسفة المحمولة» وهو أكثر أعماله الفلسفية أهمية، وينتقد فيه الكنيسة الرومانية الكاثوليكية.
كتب فولتير عدة مقالات في العلوم والفلسفة والاجتماع، وكان في أعماله الأدبية بصفة عامة يُدين الحرب والتعصب الديني والظلم السياسي والاجتماعي، كما كان لكتاباته تأثير كبير على الثورة الفرنسية. ولم يكتف فولتير في كتاباته بنقد الكنيسة، بل انتقد المجتمع الفرنسي في كل كتاباته، ومع صدور كل كتاب من مؤلفاته كان يتعرض للمنع والمصادرة، وهو ما أضفى على شخصيته صفة “المغامر” خلال حياة مديدة كرّسها لقلم جريء وفاضح في مجتمع وصفه بـ”الضيّق والمتزمّت”.
ولم يتزوج الرجل قط، ومات عازبا، لكن حياته كان تحفل بالعلاقات العاطفية، وعاش أخريات أيامه في سويسرا، وأقام مشروعا تجاريا ناجحا لصناعة الساعات هناك وهو في الخامسة والسبعين من عمره، مع مجموعة من أصدقائه السويسريين، حيث كان الممول والمدير معا، وأصبحت الساعات التي أنتجها مشروعه تنافس أفضل شركات صناعة الساعات في أوروبا آنذاك.
وبعد حياة حافلة بالأحداث والمعارك، تُوفِي فولتير عام 1778 في باريس، عن عمر مديد بلغ 84 سنة، ورفضت الكنيسة إقامةَ صلاة على جثمانه، فَدُفن سرا في إحدى الكنائس، وتعرضت رفاته للنهب من قبل بعض المتعصبين للكنيسة، باعتباره كان أحد أعدى أعدائها على الإطلاق.
وكُتب على اللافتة التي تعلو قبره: “هنا يرقد رجل حارب الملحدين والمتزمتين معا، وأوحى في كل كتاباته بروح التسامح، وطالب بحقوق الإنسان ضد العبودية ونظام الإقطاع، وجعل آفاق النفس البشرية تتسع وتتعلم معنى كلمة الحرية”.
ورُد اعتبار فولتير كأديب ومفكر من أهم رواد “عصر التنوير الأوروبي” فيما بعد على أعلى المستويات، حيث اعتبرته “الجمعية الوطنية الفرنسية” بعد أعوام طويلة من وفاته بطلا قوميا، وأحد أهم المبشرين بالثورة الفرنسية الكبرى، فجمعوا رُفاتَه وبُنِي له نصب تذكاري في مقبرة العظماء “البانثيون”.