المجلةبنك المعلومات

قراءات الذات والآخرين في كتاب بساط الريح لغسان عبد الخالق

قراءة للذات والآخر في “بساط الريح” لغسان عبد الخالق

 

قراءات الذات : القارئ لكتاب (بساط الريح: دراسات تطبيقية في أدب الرحلات) وهو الكتاب السابع عشر للباحث الأردني الدكتور غسان عبد الخالق، يلمس العمق في التحليل والإبداع في التصوير وتحفيز للفكر للإجابة عن تساؤلات فلسفية وفنية إبداعية وأخلاقية عديدة، فهو ناقد ودارس متعمق في أدب الرحلات استخدم “بساط الريح” جسراً للربط بين مجموعة من الثنائيات، معتمداً أسلوب الفكر والمقاربة في النقد والتأويل. وهو كتاب يعزز منهج النقد الحضاري المقارن، فنجده يتخذ نمط التحليل الفكري المقارن لثنائيات الشرق والغرب، الواقع والخيال، والأنا والآخر، الهو والنحن.

ويقدم المؤلف إضافة نوعية لأدب الرحلات، حيث رصد في مؤلفه عناصر الزمان والمكان والتاريخ، مقدماً ذلك وفق سجل تاريخي وجغرافي يتميز بعناصر إبداعية فنية، مستخدماً أسلوب التأويل للنص والنقد الثقافي، وهو يحاول أن يقيم مقاربات نقدية لرحلات واقعية في مقابل المتخيلة.

يقدم المؤلف محاولة نقدية ثقافية فنية حضارية فكرية يسعى فيها لأن يتلمس آلية نقدية فنية لتذوق أدب الرحلات، وهو في الوقت ذاته يعقد مقارنة نقدية بين الأنا والآخر، وبين الذات الفردية والذات الجمعية، وبين الشرق والغرب؛ فنجده يعمل على جَسْر الطريق فكرياً بين الأنا والآخر من خلال تمثل القارئ والمقروء وتوحد الأنا بالآخر في بوتقة النحن، وهو بذلك يوفر مرصداً متقدماً للنقد الحضاري والثقافي يعاين من خلاله مسألة جدارة الذات والتفوق الكوني مقارنة أو ملاقاة لحضارات الأمم الأخرى.

قدم المؤلف بجرأة فكرية عالية لمفهوم الرحلة الفلسفية والرحلة الخيالية، مستخدماً أدوات المعرفة الواقعية للجغرافيا، وأدوات المعرفة التحليلية والتركيبية والحوار، محاولاً فهم صيرورات الذات عبر أدوات تقييم الآخر، باعتباره كل من لا يخضع للثقافة السائدة.

يقدم المؤلف نموذجاً تجدر دراسته بعناية من منظور فلسفة الفن، حيث وصف الرؤية السحرية للعالم، لما يطرحه من مقاربات وتأويلات صورية أصيلة، وهو لا يكتفي بذلك، بل يتعداه ليصل إلى سبر غور أهم المشكلات الفلسفية عبر العديد من القضايا، مثل مساءلة المواصفات الأخلاقية للمجتمع، القضية الوجودية ومسألة الأنا والآخر، ومسألة الفوقية الكونية.

استخدم المؤلف نماذج عدة قديمة وحديثة حاكمها ونقدها، وأقام عبرها حواراً مع الآخر، حيث تصدى لها نقدياً بشكل تطبيقي، وعمل على استنطاقها عملياً من خلال مقاربات تلك الرحلات، مورداً مقتطفات واقتباسات من أدب تلك الرحلات ثم محاكاتها، إما بالتعليق عليها أو استكمالها بطرح أسئلة نقدية وفلسفية فكرية عميقة.

ومن يقرأ الكتاب يعي تماماً أسلوب النقد التطبيقي والتوثيق الدقيق الذي لا يؤرخ للرحلات الخمس التي تناولها فقط، إنما يتعدى ذلك ليرتد عليها ويحللها فكرياً. فقد أشار إلى ثلاث رحلات منها ما هو قديم وواقعي، مثل رحلة ابن فضلان لبلاد الترك والخزر والروس والصقالبة، ورحلة ابن جبير (محمد بن احمد الكناني الأندلسي)   ( 1145-1217م) لمصر والحجاز وبلاد الرافدين وصقلية، ورحلة ابن بطوطة (محمد بن عبدالله اللواتي الطنجي ) المتوفى عام 779م.

ويقدم المؤلف رؤية شمولية تعكس منهجه في النقد التطبيقي والنقد الحضاري القائم على عدد من الثنائيات، لعل أهمها ثنائية ومفارقة الأنا والآخر، أو ثنائية النحن و(هم) .وفي قراءته تحديداً للذات والآخر يناقش مفهوم الذات العربية الإسلامية، والآخر غير العربي، ويبحث مشكلة المركزية (مركزية العرب) وتهميش الآخر، كما يطرح مشكلة رفض المتعدد و المختلف، باعتباره الآخر وبمنظور عجائبي و غرائبي.

وقد اتخذ المؤلف منحى فلسفيًا بتحليل الحالة الثقافية وتفسيرها بطريقة ممنهجة، من خلال ما أورده من أمثلة من أدب الرحلات التي عبر فيها عن خلاصة التجربة الإنسانية عبر الاحتكاك بالآخر حضارة وثقافة، حيث قدم تحليلاً للمرجعية الفلسفية للرحلات السابقة، ولعل أبرز هذه المرجعيات الفكرية ما يسمى بالمرجعية الفلسفية العقيدية الدينية، وقد تجلت في الفصل الاول في “الذات والآخر بين ابن جبير ونجيب محفوظ”، ففي المرجعية الدينية (الذات في مقابل الآخر)، يبحث المؤلف معالم التفوق على الآخر.  وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الرحلات العربية اعتمدت المرجعية الدينية محوراً أساسياً في تقويم العلاقة مع الآخر. وقد أبرز عبد الخالق بدوره مفهوماً جديداً عبر عنه الثقافة العربية الإسلامية في نظرتها للآخر، ولا سيما الغرب باعتباره عدواً، وهو (العالمينية) نسبة إلى (العالمين ) ، ولعله بذلك يحاول أن يقارنها بفكرة العلمانية والتحررية.

وينقد المؤلف أيضاً مفهوم الذات الفردية الذي ينظر إلى النموذج الأمثل والمتفوق والأجدر بالاحتذاء بصفته حاملاً للقيم الخالصة، فنجده أينما باحثاً عن الذات المختلفة المقابلة، وهو بذلك يرفض عدداً من المقولات لعل أهمها مثال البطل وفكرة البطولة، على اعتبار أنها الصورة التي تريدها الذات لذاتها، وقد رأى أنّ بطولة الذات الجمعية لم تدفعه للانكفاء على الذات والاستسلام، بل دفعته للتعويض في بطولة الذات الفردية. وقد تجاوز نقد الذات وإبراز مغالطاتها إلى إطلاق تساؤلات تتعلق بالأصول العقدية التي أسست ظاهرة الإحساس الذاتي العربي الإسلامي بالتفوق الكوني.

وقد عبر المؤلف كذلك عن المثقف العربي، وما يحمله من أفكار ووجهات نظر سياسية وعقدية تصطدم بتحفظات جوهرية تكبله عن التفكير، ليصبح التفكير فيها محظوراً أو محارباً. وقد رسم المؤلف صوراً لرحلات فكرية لا تنتهي بحثاً عن الحقيقة، وهو مثل ما تعانيه الذات من انفصام أخلاقي وجودي ذاتي، وقد حرص على البحث عن البطل النموذج المتمثل في الرجل العلماني، والمنفتح في تعامله مع الآخر.

أما في الفصل الثاني “القدس في عيني ابن بطوطة”، فقد ناقش المؤلف ما اتُهم به الرحالة من تنامي الإحساس بالتفوق الكوني الإسلامي في مقابل احتقار الحضارات الأخرى، حيث تنبه إلى ما تنطوي عليه تلك الرحلات من ملاحظات نقدية جريئة سكت عنها الدارسون، واكتفوا بالجوانب الإيجابية فيما يتعلق بالمسلمين، الأمر الذي كشف عن نقد للانفصام الحضاري الذي تعيشه الشخصية العربية، فضلاً عن الملاحظات النقدية على الواقع العربي المفصوم المهتم بمشكلة الخصوصية والعولمة. وقد ذكر المؤلف كثيراً من الشواهد ذات الأبعاد التي تعمق الدلالات الفلسفية والوجودية التي تبتعد بها عن العاطفة الدينية، مشيراً إلى انعدام أية إمكانية لتجاوز هذا الانفصام الحضاري.

أما المرجعية الغرائبية، فقد تجلت في الفصل الثالث “ملاحظات ابن بطوطة حول الصين”، حيث يجول في خيال الرحالة في وصفه الواقع، مشيراً إلى الذاكرة المكانية والزمانية، محاولاً تخطي العقل إلى ما وراءه، وهو بذلك يحاكي ويقارب فكرياً ما قام به الرحالة العربي في ارتياده الآفاق البعيدة بحثاً عما هو مغاير، وبحثاً عن المجهول، وقد مزج المؤلف في كتابه بين الخيال والحقيقة، وبين الصدق والخيال.وقد فاض المؤلف بعناصر إبداعية في كتابه ممثلاً لمضامين الرحلات التي أشار اليها الرحالة ابن بطوطة، لافتاً إلى ما سمّاه بالغرائب والأحلام. وهكذا فقد اعتقد المؤلف أنّ الرحالة اعتمد استراتيجية محكمة لإسقاط المتلقي في شرك صدقية المقول، وهو يباشر تمرير الغرائب في قالب المقدس.

أما محور اهتمام المؤلف، فقد اتضح من خلال المرجعية الفلسفية الفكرية الجدلية، التي تجلت في الفصل الرابع “المهزوم منتصراً في قنديل أم هاشم”، حيث قدم الكاتب لجملة من التناقضات الفكرية وكذلك الفنية، مشيراً إلى إشكالية استسلام البطل المثقف لواقعه الاجتماعي السلبي وتسليمه بتفوق الواقع المضاد. ويعي المؤلف تماماً حالة الصراع بين أنصار الثقافة الإسلامية والثقافة العربية والثقافات الأخرى الغربية، سواء في إطارها الفكري أو الفني، أو السياسي والثقافي الحضاري، وهو يعد الرحلات السابقة بحق بحثاً عن الذات، وغيرها من القضايا الوجودية الكبرى، مستخدماً بذلك منهج التأمل، محاولاً تكوين رؤية مستقبلية للذات والآخر في علاقتهما التفاعلية الحضارية، مستفيداً من الواقع والمشهد السياسي الذي يرصد التنازع الفكري للمجتمعات العربية المسلمة، الأمر الذي أدى بدوره الى القصوره النسبي عن ترجمة هذا التنازع فنياً.

وقد استفاض المؤلف باحثاً في قضايا فلسفية وإشكاليات فكرية عديدة أهمها الصراع بين الشرق والغرب، الأنا والآخر، وإشكالية التقابل في مقابل التلاقي أو التثاقف، مستعيناً على ذلك بالشواهد الفكرية والثقافية لتعزيز أبعادها الحضارية والفلسفية.

وأنهى المؤلف كتابه بخاتمة دعا فيها إلى ضرورة إعادة الاعتبار لأدب الرحلات لما تتضمنه من تـأويلات فكرية، محاولاً من خلال سرديته هذه إثارة القارئ بطرح مجموعة من الأسئلة الدافعة والمحركة للتفكير، مقدماً فيها محاولات للإجابة عن بعض هذه التساؤلات الفلسفية، وهو بذلك يتمثل فلسفة التمرد على الواقع، كما أنه في استخدامه فكرة “بساط الريح” قد بنى جسراً بين الثقافات والمقولات والمفاهيم المتصلة بالأنا في مقابل الآخر.

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى