تعد ماليزيا من الدول القليلة التي تمكنت خلال فترة قياسية وفي ظل موارد محدودة من تحقيق نهضة حقيقية في شتى المجالات. ونجاح ماليزيا يعود لفكر رئيسها مهاتير محمد. ونجحت جهوده بشكل منقطع النظير لتصبح التجربة الماليزية من التجارب الملهمة للعديد من الدول وللقادة. والأسئلة المهمة هنا: ما هي أبرز ركائز التجربة الماليزية؟ و كيف راهنت سياسات مهاتير محمد على العنصر البشري في تحقيق النهضة لماليزيا؟
Table of Contents
كيف بدأت النهضة الاقتصادية الماليزية؟
في الحقيقة بدأت جهود مهاتير محمد قبل توليه أي منصب سياسي. وذلك من خلال نشره مقالاً في شبابه وجّه فيه انتقادات حادة للشعب الماليزي. وتركزت هذه الانتقادات على قبول الماليزيين أن تبقى دولتهم ذات اقتصاد ريعي زراعي. بينما العالم كله يشهد طفرات تكنولوجيا واقتصاد مزدهر. ورأى أن الماليزيين لا يقلون إبداعاً عن الشعوب الغربية.
قبل استلام مهاتير محمد الحكم كانت ماليزيا دولة ذات اقتصاد ريعي تعتمد على تصدير المطاط بشكل رئيس. ومعدلات الفقر والجهل مرتفعة. والتعصب الديني والإثني يُنهك المجتمع الماليزي. وخلال فترة قياسية تمكن من حل كل هذه المشاكل. وتحول الاقتصاد الماليزي لاقتصاد صناعي تكنولوجي تشكّل الصناعة فيه 90% من الناتج القومي الإجمالي.
في الواقع سياسة مهاتير محمد للإصلاح الاقتصادي في ماليزيا قامت على ركيزتين أساسيتين. هما استئصال الفقر وإعادة هيكلة المجتمع من جديد. فكان التوزيع العادل للثروات ومنح فرصة متساوية للمواطنين في الحصول على التعليم الجيد والتمتع بالصحة. توظيف الطاقات ضمن أولويات السياسة الاقتصادية الجديدة.
ما أبرز مفاتيح نجاح التجربة الماليزية؟
بصفة عامة اعتمدت التجربة الماليزية على الإنسان بشكل رئيس. فمهاتير محمد أدرك أن الثروة الحقيقية للأمم هي في مواردها البشرية. لذلك اعتمد على تطوير قدرات الإنسان وتمكينه اقتصادياً واجتماعياً. كون الإنسان الممكَّن هو المفتاح الحقيقي للنهضة الاقتصادية والفكرية والاجتماعية.
نتيجة لذلك انعكس الاهتمام الرسمي بقيمة المواطن الماليزي على الحالة العامة للبلاد. وتبادل المواطنون مشاعر التقدير مع السلطة. فبعدما اعتادت الدولة إشراكهم في النقاش حول القضايا الاقتصادية عبر مجالس مخصَّصة. بالإضافة إلى تدشين مشروعات وطنية عملاقة لتعزيز روح الانتماء. ولذلك تطوَّع المواطن بساعتين إضافيتين يومياً.
إن مبدأ “الفردية” في برنامج مهاتير محمد لاستشراف المستقبل الماليزي “رؤية” تبلور في اعتماد المواطنين على أنفسهم. وذلك خلال مواجهتهم لمختلف الأزمات الاقتصادية التي مرّت بهم. مثل ارتفاع أسعار النفط عام 1973م. ثم الأزمة المالية التي طالت دول شرق آسيا والتي عُرفت بـ”النمور الآسيوية” عام 1997م.
في نفس الوقت أيقن المواطن الماليزي أنه محور عملية التنمية. أي أن نهضة بلاده تقوم عليه كفرد قبل كل شيء. وفي الوقت ذاته هو المستهدف الأول منها. فكان من أهم ثمار التنمية في ماليزيا ارتفاع الناتج المحلي والدخل القومي وكذلك متوسط نصيب الفرد لكل منهما. وهذا ما أدَّى لرواج اقتصادي واجتماعي كبير في البلاد.
من جهة أخرى كان متوسط نصيب المواطن الماليزي من إجمالي الدخل القومي خلال حقبة السبعينيات نحو 810 رينجيت. أي حوالي 270 دولاراً أمريكياً. ثم ارتفع لـ3703 رينجيت في 1980م. وتصاعد لـ6299 رينجيت في 1990م بمعدل نمو 70%. ثم ارتفع لـ13939رينجيت بمعدل نمو 276% عن متوسط عام 1980م. ثم ارتفع لـ37759 رينجيت في 2016م.
ما مفهوم الذاتية في التجربة الماليزية؟
في الحقيقة كان مهاتير محمد واثقاً من مواطنيه تمام الثقة. وحينما احتاجت ماليزيا الموارد المالية راهن على الأفراد. ونجح المواطنون في توفير 40% من الدخل القومي سنوياً عبر مؤسسات كبرى. مثل صناديق الادخار المساهمة من العمال وأصحاب العمل. فأسهموا بـ20%من الأجر (العامل يدفع 9% وصاحب العمل 11%). ولذلك تكونت لماليزيا أموال ضخمة (نحو 400 مليار رينجيت).
لقد اعتمدت الحكومة الماليزية بشكل كبير على مواردها الداخلية وثروات الأفراد في توفير رؤوس الأموال اللازمة لتمويل الأنشطة الاقتصادية ودفع النمو. فارتفع معدل الادخار المحلي الإجمالي بنحو 40% بين الفترة من 1970 إلى 1993م. كما زاد الاستثمار المحلي الإجمالي بنسبة 50% خلال الفترة ذاتها.
من ناحية أخرى تركّزت النهضة الماليزية على يد مهاتير محمد في بناء المواطن والاستثمار الشامل في الإنسان. باعتباره الثروة الحقيقة والمحرك الرئيس للنهضة الاجتماعية والاقتصادية والعلمية. فتم إرسال الآلاف من الموظفين إلى كلّ من اليابان وكوريا الجنوبية للتدريب وجلب ثقافة العمل والإنتاجية إلى البلاد.
من هنا فإن التجربة التنموية في ماليزيا ما بعد أزمة 1997م تميّزت بـ”الذاتية” والاعتماد على المجهود المحلي. فتشكّل مجلس عمل وطني اقتصادي اتجه لتحجيم عوامل الفساد وإصلاح الجهاز الإداري للدولة ومحاربة المضاربة على العملة المحلية. والرقابة على رؤوس الأموال وتثبيت سعر الصرف أمام العملات الأجنبية.
كما حققت ماليزيا برنامجها الإصلاحي الاقتصادي وسط ظروف عصيبة بمواردها المحدودة ومجهودها الفردي دون أن تلجأ للاستدانة الخارجية أو تنتظر مِنَحاً من أي دولة أخرى. بل ويُذكر لها تفرُّدها في رفض حزم المساعدات الضخمة التي عرضها عليها صندوق النقد الدولي بشروط مُجحفة.
كيف حقق المجتمع الماليزي النهضة الاقتصادية “محمد على” ؟
في الحقيقة عند تولي مهاتير محمد السلطة في البلاد كان المجتمع الماليزي متناحراً عرقياً ودينياً. فالمالايو يشكلون 58% من المجتمع الماليزي. والصينيون 24% والهنود 7% والبوميبوترا 11%. وهذه الجماعات متناحرة عرقياً ودينياً. إلا أن مهاتير تمكن من دمج المجتمع الماليزي على أسس وطنية فقط. واعتبر المواطنة هي التي تحدّد مستوى المواطن ولس دينه أو عِرقه.
كما أطلق مهاتير عدة مبادئ اجتماعية ساهمت في تعزيز مبادئ المواطنة. فقال: إن الله لا يساعد الأمم والأفراد الذين لا يساعدون أنفسهم. وحرص على أن تكون قيمة الفرد في مجتمعه متعلقة بعمله وإخلاصه لدولته. وبذلك تمكَّن من بناء مجتمع مُنتِج بعيداً عن التعصب والتناحر. وهو ما عزز النهضة الفكرية والاقتصادية في الدولة.
إن معجزة ماليزيا تحققت بشعبها الذي تمكّن خلال نحو 22 عاماً من تحويل بلاده الصغيرة الفقيرة إلى ورشة عمل جماعية. نقلتها من مصافّ الدول الزراعية البدائية إلى واحدة من كبرى البلدان المصدرة للتقنية مرتفعة الجودة. وفي نفس الوقت ذات معدل نمو سنوي يناهز الثمانية بالمائة كأحد أعلى المعدلات حول العالم.
في الواقع إن النموذج الاقتصادي للتنمية في ماليزيا ثمرة استراتيجية وطنية شاملة تفاعلت فيها القيادة مع المواطنين. واتضحت فيها علاقة الثقة المتبادلة التي وفّرت الدعامة القوية لنجاح تجربة إنسانية يراها الكثير من الخبراء جديرة بالتحليل والفهم والقراءة. علاوة على استنباط أُسس النهوض المجتمعي الشامل وليس الاقتصادي فقط.
في النهاية تسعى العديد من الدول لاقتباس بعض جوانب التجربة الماليزية. وهنا تظهر التصريحات الأخيرة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشأن “الذهب تحت الوسائد”. ودعوته للمواطنين إلى التخلي عن ادخاره وإدخاله في النظام المالي للدولة واستثماره في دعم خطط النهوض بالاقتصاد المحلي. وهذا يسلّط الضوء على أهمية مشاركة العنصر البشري في عملية التنمية والنهوض بشتى صوره.