شخصيات دينية

محمد باتيل.. مؤسس وأمير جماعة التبليغ في المملكة المتحدة وأوروبا

كان للشيخ الراحل الحافظ محمد باتيل Hafiz Mohammed Patel الفضل في تأسيس أكبر مركز لجماعة التبليغ وأحد أكبر المساجد والمدارس الدينية في المملكة المتحدة وأوروبا.
بحكم الاحتلال البريطاني القديم لشبه القارة الهندية، كان ولازال المسلمون في بريطانيا يغلب عليهم القادمون من بلدان شبه القارة وأبناؤهم من الجيل الثاني والثالث، وقد جاء هؤلاء إلى بريطانيا بنفس الخريطة الدينية الموجودة في بلادهم الأصلية من حيث مدارسها الفكرية والحركية والمذهبية، ولإن كان أول من أرسل بعثات إلى بريطانيا من هؤلاء هم أتباع الطائفة الأحمدية، وكان ذلك في بداية القرن العشرين، فقد كان لجماعة التبليغ النصيب الأكبر في النصف الثاني من القرن العشرين.

مولد محمد باتيل

ولد محمد باتيل في قرية صغيرة من قرى ولاية جوجارات الهندية عام 1926، حيث حفظ القرآن الكريم صغيرا، وقضى 21 عاما في الهند، إلى أن انتقل إلى كراتشي بعد انقسام الهند، وهناك التقى بالشيخ أمير الدين أحد رجال جماعة التبليغ، الذي أقنعه بقضاء عطلة نهاية الأسبوع “في سبيل الله”، ومنذ ذلك الحين تغيرت حياته، حيث تحول فهمه للإسلام وأصبح مشحونًا بإحساس مفعم بمهمة التبليغ.
محمد باتيل.. مؤسس وأمير جماعة التبليغ في المملكة المتحدة وأوروبا
محمد باتيل.. مؤسس وأمير جماعة التبليغ في المملكة المتحدة وأوروبا

لقاء محمد باتيل بالشيخ الكندهلوي

وفي وقت لاحق وأثناء تأديته لفريضة الحج التقى الشاب باتيل بالشيخ محمد يوسف الكندهلوي الأمير العام الثاني لجماعة التبليغ، والذي كان “معجبًا جدًا بإخلاصه في قضية الإسلام لدرجة أنه أخذه أمام الكعبة وهناك”. “توسل إلى الله أن يجعله أداة لكسب بريطانيا بأكملها إلى الإسلام”.
وقبل استكمال سيرة الرجل، يحسن التوقف للتعرف على جماعة التبليغ. جماعة التبليغ هي جماعة تمارس الدعوة الدينية، ولها أساليبها التي تميزها في ذلك، أسسها الشيخ محمد إلياس الكندهدلوي في الهند عام 1926، ويتركز عملها على دعوة المسلمين إلى العودة لممارسة تعاليم دينهم على منهاج النبوة، وتعمل في المقام الثاني على دعوة غير المسلمين للإسلام، وتصنف على أنها أكبر جماعة دينية إسلامية غير سياسية في العالم، حيث تعمل في 150 دولة في العالم، ويختلف تقدير عدد أتباعها ما بين 12 و80 مليون إنسان.

تجليات المدرسة الديوبندية

والجماعة هي أحد تجليات المدرسة الفكرية الهندية المعروفة باسم الديوبندية، وهي حركة إحياء وإصلاح سنية تأسست أواخر القن التاسع عشر في أعقاب الاحتلال البريطاني لشبه القارة الهندية، حول مدرسة دار العلوم في ديوبند بالهند، ومن هنا أتى اسمها. وهي تتبع المذهب الحنفي، تسعى للحفاظ على جوهر الدين ومظاهره، عبر العودة إلى ما كان عليه النبي وأصحابه، وهي تتبع المذهب الحنفي، وتلتزم بالتقليد.
وعودة لاستكمال سيرة محمد باتيل، وكأنها استجابة لدعوة الشيخ محمد يوسف الكندهلوي، ففي عام 1962 هاجر باتيل إلى إنجلترا عام 1962 مثل غيره ممن هاجروا من شبه القارة الهندية بحثا عن حياة أفضل. وفي تلك الأيام، كانت المساجد نادرة الوجود، وكان أصحاب العمل غير المسلمين غير ملمين بالإسلام وتعاليمه، لذلك كان من الصعب الحصول على إجازة لأداء الواجبات الدينية، حتى لصلاة الجمعة.
محمد باتيل.. مؤسس وأمير جماعة التبليغ في المملكة المتحدة وأوروبا
محمد باتيل.. مؤسس وأمير جماعة التبليغ في المملكة المتحدة وأوروبا

محمد باتيل وترك الوظيفة

وهو ما كان يمثل تحديا للحريصين على أداء واجباتهم الدينية. وبما أن فرض صلاة الجمعة هو عبادة في غاية الأهمية، فقد كان الحافظ محمد باتيل يتغيب لفترة قصيرة بعد ظهر يوم الجمعة مما يسبب مشاكل في العمل. وفي النهاية ترك وظيفته فقط لأنه لم يتمكن من أداء صلاة الجمعة.

محمد باتيل والانتقال إلى ديوسبري

ومن ثم سارع إلى الاستجابة التي جاءته بعد عامين من قدومه من الجالية المسلمة الجوجاراتية في مدينة ديوسبري بغرب مقاطعة يوركشاير ليكون إماما لهم، وبالفعل انتقل باتيل إلى ديوسبري عام 1964 وبدأ التدريس في مدرسة كانت تدار في منزل أحد أفراد مجتمع جوجارات هناك. وبعد عامين تم شراء منزل آخر بهدف إنشاء مسجد ومدرسة، حيث تولى دور الإمام والمدرس هناك، وظل هذا المسجد مركزا لجماعة التبليغ عدة سنوات، وفي عام 1978 شرع الحافظ محمد باتيل ومجتمع المسلمون هناك في تأسيس المسجد المركزي في ديوسبري، وهو أحد أكبر المساجد في أوروبا والمقر الأوروبي لجماعة التبليغ، بالإضافة إلى المدرسة المجاورة له، وهي إحدى المدرستين الإسلاميتين الرئيسيتين في بريطانيا.

محمد باتيل وتأسيس جماعة التبليغ

وقد تم الانتهاء من بناء المدرسة عام 1980، والمسجد عام 1982، وتحول المكان إلى المركز الرئيسي لجماعة التبليغ في المملكة المتحدة أوروبا، حيث عمل منه الحافظ محمد باتيل على تأسيس جماعة التبليغ على المستوى الوطني والحفاظ على الروابط بين الجماعة في بريطانيا وأوروبا من جهة وبين الجماعة على المستوى الدولي من جهة ثانية، وهو ما اقتضى منه أن يسافر كثيرًا تاركا وراءه إرثًا من “البنية التحتية المؤسسية الوطنية التي سمحت للدين بأن يتجذر بشكل حاسم في الأراضي البريطانية”.
وكان الأثر الصافي لجهوده هو المساهمة في إضفاء الطابع المؤسسي المتزايد على الإسلام في بريطانيا. وازدياد عدد المساجد والمدارس الإسلامية والمدارس الدينية، وتأسيس 4 مقار إقليمية للدعوة والتبليغ في بريطانيا تتوزع على كل من جلاسجو، وبلاكبيرن، وليستر، ولندن، حيث يجتذب كل منها، عدة مئات من المسلمين في اجتماعاتهم الأسبوعية كل ليلة خميس.
فضلا عن ذلك فقد كان لجهوده فضل في تأسيس عدد كبير من المدارس والمكاتب يذكر منها شيخ الحديث مولانا محمد سليم دورات: دار العلوم دعوة الإيمان في برادفورد، ببريطانيا، ودار العلوم دعوة الإيمان في مانيكبور، تاكولي بالهند، ودار العلوم في بنما، فضلا عن دار العلوم تعليم الإسلام في ديوسبري.

وفاة محمد باتيل

وقد شاء الله للحافظ محمد باتيل أن يسلم الروح يوم 18 فبراير من عام 2016، وقد شارك الآلاف في تشييع جثمانه. وكما يذكر مولانا دورات في تأبينه فقد تميزت شخصية الحافظ محمد باتيل بالعزيمة والهمة في القيام بمهام الدعوة حتى في أوقات مرضه وكبر سنه وفي فترة حزنه على فقد أحد أبنائه، كما كان يأخذ نفسه بالعزيمة في عبادته وذكره، وكان حريصا على أن توافق أفعاله أقواله، وكان فضلا عن ذلك متواضعا كريما معطاء، يمد جسور المودة مع الجميع، موقرا للعلماء.
بينما تذكر صفحة الشورى العالمية لجماعة التبليغ أن الحافظ محمد باتيل سيتم تذكره كثيرًا بسبب العديد من الصفات الأساسية حيث قدم مثالا للتفاني الصادق ونكران الذات في خدمة الآخرين، وكما يقول أحد معارفه فإن “كل ما فعله كان لصالح الأمة والإنسانية جمعاء”، كما أنه وضع دائمًا احتياجاته الخاصة في آخر المراتب، وأخيرا فإنه كان رجلا ذا إنجاز روحي كبير.
ونتيجة لذلك، يمكن التأكيد على أنه في حين أن المسلمين البريطانيين الأوائل المشهورين، مثل الشيخ عبد الله كويليام، يُنسب إليهم الفضل في إدخال الإسلام إلى الجزر البريطانية، فإن شخصيات مثل الحافظ باتيل سوف يُذكرون لجهودهم الدؤوبة لإنشاء بنية تحتية مؤسسية على مستوى البلاد، سمحت للدين بأن يتجذّر بشكل حاسم في الأراضي البريطانية.
د/ مجدي سعيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى