محمود محمد شاكر | علم من أعلام فكرنا العربي الإسلامي المعاصر، نذر حياته كلها للدفاع عن اللغة العربية والإسلام، هو محمود بن محمد شاكر بن عبد القادر, من أسرة أبي علياء من أشراف (جرجا) بصعيد مصر، وينتهي نسبه إلى الحسين بن علي رضي الله عنهما.
Table of Contents
مولد محمود محمد شاكر
ولد في الإسكندرية في العاشر من المحرم 1327 هـ, الموافق أول فبراير 1909م، وكان والده عالمًا كبيرًا، وكان شيخًا لعلماء الإسكندرية، ولما عُيِّن وكيلاً للجامع الأزهر انتقل إلى القاهرة، وانتقل معه أولاده.
وكان والد محمود شاكر أمَّارًا بالمعروف نَهَّاءً عن المنكر، دخل مرة يصلى الجمعة؛ فسمع الخطيب ينافق السلطان الذي كان حاضرًا، ويقول كلامًا فيه نَيْل من مقام النبي صلى الله عليه وسلم, فقام بعد الصلاة، وقال: أيها الناس, أعيدوا صلاتكم, فإن الإمام قد كفر عندما قال ما قال, وتقدّم وصلى بالناس.
محمود محمد شاكر .. والخلاف مع طه حسين
تلقى محمود شاكر مراحل تعليمه في القاهرة، ومع بداية عام 1922م قرأ على الشيخ (سيد بن على المرصفي), وحضر دروسه التي كان يلقيها في جامع السلطان برقوق، ثم قرأ عليه في بيته، واستمرت صلته به إلى أن توفي المرصفي عام 1931م، والتحق شاكر بكلية الآداب في الجامعة المصرية سنة 1926م، واستمر بها إلى السنة الثانية؛ ثم نشب خلاف شديد بينه وبين (طه حسين) حول منهج دراسة الشعر الجاهلي؛ فترك الجامعة وسافر إلى الحجاز سنة 1928م, وأنشأ مدرسة جدة الابتدائية؛ بناءً على طلب الملك عبد العزيز، ثم عاد إلى مصر بعد أن مكث في الحجاز سنة واحدة.
وقد أتاحت له نشأته في بيت والده العالم الكبير معرفة عدد من السياسيين والعلماء الذين كانوا يترددون إلى والده؛ فاتصل بأمثال (محب الدين الخطيب) و(أحمد تيمور) و(الخضر حسين) و(أحمد زكي باشا) و(مصطفى صادق الرافعي).
بدأ الكتابة في مجلة المقتطف منذ سنة 1932م, كما أسهم في إخراج مجلة المختار من (ردايجست), وشارك في عدد من المؤتمرات العربية، وانتخب عضوًا مراسلاً في مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم دخل مجمع اللغة العربية في القاهرة، ونال من مصر جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1981م, كما نال جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي عام 1984م.
محمود محمد شاكر .. قلب نابض وعقل واعٍ
ومحمود شاكر قلب نابض يحب أمته وتحقيق آمالها، وعقل واعٍ لتاريخها وثقافتها, وعين راصده لعالمها المتراحب، وحارس أمين يحرسها من كل خطر دقَّ أو جلَّ، ومن كل عدوٍ تخفّى أو تبدّى، سخَّر قلمه وعلمه للدفاع عن العربية لغة القرآن، يقول في مقدمة تحقيقه لدلائل الإعجاز:
“وأسأله أن يعينني على ما أُقحم نفسي فيه من عمل أريد به وجهه سبحانه، ثم ما أضمره من خدمة هذه اللغة الشريفة النبيلة, التي شرَّفها الله وكرَّمها بتنزيل كتابه بلسان عربي مبين”.
كما نذر نفسه لفضح ما دس من دسائس وما حِيكَ من مؤامرات وما دُبِّر من مكر ضد هذه الأمة وتاريخها ورجالاتها ودينها ولغتها.
وكان شعاره في ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا لا يمنعن رجلاً هيبةُ الناس أن يقول بحقٍّ إذا علمه» [رواه الترمذي (2191), وقال: حديث حسن صحيح].
ها هو ذا يصف تحسسه لدبيب المكر الخفي يتسرب من وراء سطور قرأها: ولكني كنت امرأً نهمًا يأخذه للكلام المكتوب سُعار، فتناولت الصحيفة وبدأت أقرأ سطرًا بعد سطر، وكان الضحك يشقُّ عن حلقي، ويباعد بين فكي.. حتى فوجئت بشيء أمسك عليَّ ضحكي، وكظمه في بلعومي، شيء سمعت حسّ دبيبه من تحت الألفاظ، فجعلت أستسمِعُه فإذا هو:
كَشيشُ أفعى أجمَعَت لعَضِّ فهيَ تحُكُّ بَعضَها ببَعضِ.
لطافة الحس، وخفة الروح
وفي كلامه هذا من لطافة الحس، وخفة الروح، ورحابة النفس ما لا يخفى على أحد، وهذا ديدنه وهجيراه في كل ما كتب؛ كما يقول تلميذه الدكتور (محمود الطناحي).
ويقول شاكر بعد أن قرأ مقالة المستشرق (مرجليوث) عن الشك في الشعر الجاهلي في مجلة الجمعية الملكية الآسيوية: «ثم بعد أيام لقيتُ أحمد تيمور باشا، وأعدتُ إليه المجلة، فسألني: ماذا رأيت؟ قلتُ: رأيت أعجميًّا باردًا شديد البرودة، لا يستحي كعادته! فابتسم وتلألأت عيناه، فقلتُ له: أنا بلا شكٍّ أعرف من الإنجليزية فوق ما يعرفه هذا الأعجم من العربية أضعافًا مضاعفة، بل فوق ما يمكن أن يعرفه منها إلى أن يبلغ أرذلَ العمر، وأستطيع أن أتلعّب بنشأة الشعر الإنجليزي منذ شوسر إلى يومنا هذا تلعُّبًا هو أفضل في العقل من كل ما يدخل في طاقته أن يكتبه عن الشعر العربي، ولكن ليس عندي من وقاحة التهجّم وصفاقة الوجه، ما يسوِّل لي أن أخط حرفًا واحدًا عن نشأة الشعر الإنجليزي».
الصدع بالحق
وكان شاكر صداعًا بالحق يقول ما يعتقد بجرأة وحماسة ممزوجة بحدة, لا يخشى في الله لومة لائم، وكان غيورًا على الإسلام وعلى لغة القرآن، ومن أجل ذلك خاض معاركة مع (طه حسين) و (لويس عوض) و (عبد العزيز فهمي) ومع دعاة التغريب، وكان يعيش قضايا عصره يعالجها في وعي وإيمان، تلمس ذلك في إدراكه الأخطار التي تواجه الأمة الإسلامية، ويتجلى هذا في الرسالة القيمة والتي أرى من المهم جدًّا أن يطلع عليها ويقرأها كل مسلم في هذا العصر وعنوانها “رسالة في الطريق إلى ثقافتنا”، وهي في الأصل مقدمة الطبعة الجديدة لكتاب المتنبي..
معركته مع لويس عوض
ومن أشهر معاركه معركته مع (لويس عوض) أو (أجاكس عوض) كما كان شاكر يحب أن يطلق عليه, وقد جمعها في كتابه «أباطيل وأسمار»، ومما يذكر لشاكر الفضل العظيم في توعيه تلامذته وأبناء أمته بدعوتهم إلى الرجوع إلى المصادر وعدم الاكتفاء بهذه الدراسات الحديثة عن الإسلام، والتحذير من بعض الآراء فيها, والتنبيه على الدسائس التي دُسَّت علينا في ثقافتنا، ولاسيما في التاريخ, كالوقوع في (معاوية) و (عمرو بن العاص) و (عثمان بن عفان), رضي الله عنهم, فقد كان ينبه على ذلك في أحاديثه في مقالاته التي كتبها تحت عنوان «لا تسبّوا أصحابي», كما بيَّن خطر مناهج المستشرقين وهدمهم الخفي في كيان الأمة وفكرها.
أسرار البلاغة
ومن كتبه وتحقيقاته كتاب المتنبي الذي كان قد نشره في مطلع سنة 1936م في عدد خاص من مجلة المقتطف, وكتاب «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز» لـ(عبد القاهر الجرجاني)، وكتاب «إمتاع الأسماع بما للرسول من الأبناء والأموال والحفدة والمتاع» لـ(تقي الدين المقريزي).
ولقد مات هذا العالم الكبير في الرابع من ربيع الآخر من عام 1418 هـ الموافق الثامن من أغسطس 1997م، ولكن ذكره باقٍ ما بقي الدهر, إن شاء الله, ولقد روى الإمام السمعاني في «أدب الإملاء والاستملاء» عن يحيى بن أكثم أن الرشيد ـ وهو من هو ـ قال له: “نحن نموت ونفنى, والعلماء باقون ما بقي الدهر”.
رحم الله أبا فهر, وجزاه عن خدمة القرآن ولغة القرآن خير الجزاء، وأكرم نزله، وأحلَّه في الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
محمد سيد بركة