واحدا من أهم القامات الإخراجية في تاريخ السينما العالمية، وسيدا بلا منازع لأفلام التشويق البوليسية التي لا تخلو من لحظات شديدة التأثير من الرعب والغموض، ويمكن القول أن العديد من قوانين هذا النمط وشفراته السينمائية الخاصة هو من وضعها، ولم يخرج طوال حياته الفنية التي استغرقت ما يزيد علي الخمسين عاما عن تقديم هذا النمط السينمائي، وكانت عبقريته الحقيقية تكمن في قدرته علي أن يحمل فيلم التشويق إلى مستويات عالية الوضوح في بعض من أهم أفلامه.
ولد المخرج العالم الفريد هتشكوك في 13 أغسطس من عام 1899م في انجلترا، لأب ثري مولع بالمسرح، حيث عاش طفولة سعيدة، مرت دون مشاكل، وتلقي تعليمه الأول في معهد يسوعي، بعدها التحق بمدرسة للفنون الجميلة، حيث ظهرت موهبته كرسام، وعن طريق الرسم، تسلل إلى عالم السينما، حيث تمكن من استخدام نوع من الرسم المحفور للوحات أفلام، شارلي شابلن في فيلم “التعصب” وغريفيت في فيلم “مولد أمه” ما جعله يدمن مشاهدة العروض السينمائية والمسرحية ليدرس عن كثب حركات الممثلين أملا في أن يكون ممثلا يوما ما.
أنتج هتشكوك وهو في عمر 23 عاما أول فيلم صامت له باسم “رقم 13″، وفي عام 1925 أصيب بدهشة كبيرة حين عرض عليه المنتج المعروف مايكل بالكون، الذي يعود إليه الفضل الرئيس في اكتشاف موهبته، وتشجيعه علي العمل في حقل السينما، القيام بإخراج أول فيلم له، وكان قبل ذلك قد اشتغل بوظيفة مساعد مخرج، ثم كاتب سيناريو وحوار.
في أمريكا اتخذ هتشكوك من السخرية والتشكيك في المجتمع الأمريكي، ومن الحرية التي يتبجحون بها هدفا، لاسيما وقد شاهد بنفسه ما عرف بالمكارثية، التي روعت كبار العاملين في السينما، ممثلين ومخرجين وكتابا وموسيقيين أمثال: الياكازان، وآرثر ملر، وعزرا باوند، وشارلي شابلن وآخرون.
وكان أول فيلم أخرجه في أمريكا بعد وصوله “ريبيكا” الذي أثار ضجة كبيرة عند عرضه وقد حاز الفيلم علي جائزة الأوسكار في الإخراج، وبرهن الفيلم عن تشاؤمية واضحة للحياة الأمريكية، حيث العنف الذي لا حد له، واستحالة أن يكون المرء عارفا في أي شيء، بما فيه الزواج! فليس هناك غير سحر الفراغ والموت والذاكرة.
وفي فيلمه الثاني “المراسل الأجنبي” عام 1940م والذي أقبل الجمهور الأمريكي علي مشاهدته بشغف كبير، يكشف علي نحو فاجع، ازدواجية الحياة الأمريكية، حيث ممثل رابطة السلام النازي الصحفي الكسول والسكير، يصبح بطلا! شاب مخنث يتحول إلي وطني بارز، صرخات الألم والفزع تختفي خلف قرع طبول موسيقي الجاز الصاخبة، طاحونة هواء تدور ضد الرياح… الخ.
وقد عدّ النقاد هتشكوك بفيلمه هذا: انه لم يغز هوليوود فقط، بل غزا أمريكا كلها.. أما فيلمه التالي “الشك” الذي يعده هتشكوك نفسه بمثابة الهجوم علي أمريكا المظاهر الخادعة، وروح الاستهلاك، والوحشية وأكذوبة الأسطورة الأمريكية، فالمرأة هناك، كما يقدمها الفيلم، مستلبة جنسيا حتى من قبل زوجها! مما يجعلها، وقد أخذ هذا الاستلاب طابعا مرضيا، تتمني علي نحو متزايد الموت بعد كل علاقة عاطفية.
وفي فيلمه اللاحق “المخرب” فضح هتشكوك اللجان الفاشية التي تحكم أمريكا من وراء الستار، وفي فيلمه “قارب النجاة” المأخوذ عن رواية لجون شتاينبك، والمنتج عام 1943م حيث كانت الحرب العالمية الثانية علي أشدها، يقدم سلسلة من فضائح النازيين وتجار الحروب من الأمريكيين.
وفي “قضية بارادين” الذي أنتج عام 1947م يظهر التنديد الشديد، والتشنيع إلي حد السخرية بالمحاكم الأمريكية التي لا تدور فيها مرافعات نزيهة، وتشبه جلساتها، إلي حد بعيد فصول مسرحية تهدد حياة الأبرياء بالفناء.
أما آخر فيلم له في أمريكا فكان رهبة المسرح حيث عاد بعده إلي وطنه، بعد أن أمضي هناك قرابة احدي عشرة عاما، وودع أمريكا بهذا الفيلم الذي قال فيه بعد أن رأي كيف أن صحافتها علي كثرتها، تنسب كل يوم مئات الضحايا، دائما إلي قاتل مجهول!
و لقد أثار هتشكوك دائما موضوع الإنسان الذي يتهم، وهو البريء، وكان يعمد في الغالب من معالجة معضلة إنسانية خطيرة كهذه، إلى تحريك المتهم البريء نحو ضرورة الأخذ بزمام المبادرة للدفاع عن نفسه في بسالة، من دون انتظار العون من أحد، وتميز فيلمه الشهير الطيور الذي كتبت بحقه دراسات فنية عديدة مطولة، مجمعة علي تمجيده، بالمهارة الفنية العالية التي عالج بها موضوعه.
وقد توفي هذا المبدع العملاق في يوم 29 أبريل من عام 1980م في مدينة لوس أنجلوس بالولايات المتحدة.