مبدعونرواد الأعمال

ياسمين لاري .. أول معمارية باكستانية تكتب تاريخًا جديدًا للهندسة الإنسانية

في عالم العمارة، غالبًا ما تقاس الإنجازات بما يُشيَّد من أبنية شاهقة أو تصاميم لافتة للأنظار. لكن مسيرة ياسمين لاري، أول امرأة باكستانية تتخصص في الهندسة المعمارية، تبرهن أن العمارة ليست مجرد فن للبناء، بل وسيلة لتغيير حياة البشر وتحقيق العدالة الاجتماعية. فقد امتلكت رؤية مختلفة جعلتها رائدة العمارة المستدامة في جنوب آسيا، وواحدة من أبرز الأصوات المعمارية عالميًا، خاصة بعد موقفها الجريء برفض جائزة وولف المعمارية المرموقة، والتي تمنحها مؤسسة إسرائيلية، الأمر الذي وضعها في صدارة النقاشات الثقافية والأخلاقية حول دور المعماري في قضايا الإنسانية.


من هي ياسمين لاري؟

ولدت ياسمين لاري عام 1941 في مدينة دندي بباكستان. درست العمارة في أكسفورد بروك في بريطانيا، ثم عادت إلى وطنها لتؤسس مكتبها الخاص، لتصبح أول امرأة تعمل في مجال الهندسة المعمارية في بلدها. منذ بداياتها، لم تكن لاري مجرد مهندسة تبني المباني الفاخرة للأثرياء، بل اختارت طريقًا أكثر صعوبة وإنسانية، حيث انحازت للمجتمعات الفقيرة والمهمشة.

عرفت مشاريعها بتوجهها نحو العمارة البيئية، إذ حرصت على استخدام المواد المحلية منخفضة التكلفة، مثل الطين والخيزران والجير، لتصميم مبانٍ مقاومة للكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات. وبذلك، ساهمت في تمكين الأسر الفقيرة من الحصول على مساكن آمنة ومستدامة، بعيدًا عن الاعتماد على المعونات الدولية أو الحلول المؤقتة.


العمارة الاجتماعية.. فلسفة لاري في البناء

ترى ياسمين لاري أن العمارة ليست ترفًا جماليًا، بل وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية. ولذلك ابتكرت ما يعرف بـ “الهندسة المعمارية الاجتماعية”، التي تركز على الإنسان قبل أي شيء آخر. عملت على تدريب النساء والأسر في المناطق الريفية على تقنيات البناء البسيطة، ما جعلها لا تبني منازل فقط، بل مجتمعات قادرة على الاعتماد على نفسها.

ومن أبرز مبادراتها ما قامت به بعد زلزال باكستان عام 2005، حيث ساعدت آلاف الأسر على إعادة بناء منازلهم بطرق بسيطة وبتكلفة زهيدة، مع الحرص على أن تكون مقاومة للكوارث. هذا الأسلوب عزز مكانتها كـ”معمارية الفقراء”، وكرّس صورتها كرمز عالمي للهندسة الإنسانية.


موقفها من جائزة وولف المعمارية

في يوليو 2025، تناقلت وسائل الإعلام العالمية خبر رفض ياسمين لاري قبول جائزة وولف المرموقة في العمارة، والتي تُمنح من مؤسسة إسرائيلية. قرارها كان صادمًا للبعض، لكنه في الوقت ذاته مثّل استمرارًا طبيعيًا لمسيرتها الإنسانية. فقد اعتبرت لاري أن قبول جائزة من مؤسسة مرتبطة بدولة تمارس سياسات قمعية يتعارض مع مبادئها الأخلاقية وموقفها الداعم للعدالة الاجتماعية.

هذا الموقف لم يكن مجرد رفض لجائزة، بل كان رسالة قوية للعالم تؤكد أن الإبداع الحقيقي لا ينفصل عن الموقف الأخلاقي. وهكذا أثبتت أن المعماري لا يبني فقط جدرانًا وأسقفًا، بل يسهم أيضًا في بناء ضمير إنساني عالمي.


التكريمات والإنجازات

رغم رفضها لجائزة وولف، فقد حصلت ياسمين لاري على العديد من الجوائز والتكريمات المرموقة عالميًا، من أبرزها:

  • جائزة المعهد الملكي البريطاني للمعماريين (RIBA) عن إنجازاتها في العمارة المستدامة.

  • تكريمها من اليونسكو لدورها في الحفاظ على التراث المعماري.

  • اختيارها كواحدة من أكثر الشخصيات تأثيرًا في مجال العمارة في القرن الحادي والعشرين.

لكن ما يميز لاري عن غيرها أن هذه الجوائز لم تغيّر فلسفتها، فهي لا تزال تؤمن أن القيمة الحقيقية لعملها تكمن في البساطة، والاستدامة، وخدمة الإنسان.


ياسمين لاري والبعد الإنساني للعمارة

إلى جانب إنجازاتها الهندسية، كرّست لاري جزءًا كبيرًا من حياتها للتعليم والتدريب. فقد أسست مبادرات لتعليم النساء في القرى كيفية بناء المنازل بأنفسهن، مما ساعد على تعزيز استقلاليتهن الاقتصادية. كما شاركت في مشروعات لحماية التراث المعماري الباكستاني، مؤكدة أن حماية التاريخ جزء من حماية الهوية.


إرث متجدد وإلهام عالمي

تعد ياسمين لاري اليوم أكثر من مجرد معمارية؛ إنها رمز لمقاومة الاستغلال والاستعمار الثقافي، وصوت ينادي بضرورة أن تكون العمارة أداة للسلام والعدالة. لقد جسدت في مسيرتها كيف يمكن للمعمارية أن تتحول إلى قصة إنسانية ملهمة، تمتد من باكستان إلى العالم أجمع.

رسالتها للأجيال الجديدة من المعماريين واضحة: العمارة ليست جدرانًا تزين المدن، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الناس والأرض والتاريخ.


خاتمة

إن قصة ياسمين لاري تكشف لنا كيف يمكن للمرأة أن تتحدى القيود الاجتماعية والمهنية لتصبح رائدة في مجالها. فهي أول معمارية باكستانية، ومبتكرة في مجال العمارة البيئية، وإنسانة رفضت أن تفصل بين الإبداع والموقف الأخلاقي. رفضها لجائزة وولف لم يكن قرارًا شخصيًا فقط، بل كان صرخة مدوية تؤكد أن المعماري الحقيقي يبني ضمير العالم قبل أن يبني جدرانه.

بهذا، تظل ياسمين لاري أيقونة للعمارة الإنسانية، وملهمة لكل من يؤمن بأن الإبداع لا قيمة له إن لم يكن في خدمة الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى