بنك المعلوماتالمجلة

49% من الزيجات العربية ” زواج أقارب “

أوضحت دراسة ميدانية حديثة أن حالات الزواج بين الأقارب تتعدى نسبة 49 % من الزيجات في المجتمعات العربية، واختلفت النسب بين الأقطار العربية، حيث ارتفعت النسبة في المملكة العربية السعودية إلى 57%، بينما كانت النسبة في فلسطين 49 %، وتعدت الكويت نسبة 54.3 % من الزيجات، أما في مصر فتبين أن زواج الأقارب يصل إلى أكثر من 39 % من حالات الزواج، الأمر الذي يؤكد ارتفاع نسبة زواج الأقارب في المجتمعات العربية، في الوقت الذي تختفي فيه هذه الظاهرة في البلدان الغربية ولا تمثل أكثر من 2 % فقط.

وأرجع الباحثون تفضيل الكثير من الأسر العربية فكرة زواج الأقارب إلى الإيمان بمبدأ “الحفاظ على الترابط الأسري والتفاهم بين الزوجين” باعتبار أنهم من بيئة اجتماعية واحدة وتربية واحدة، وعدم وجود تحريم شرعي لهذه النوعية من الزيجات، فيما يتخذها البعض ذريعة للتخوف من تقسيم “الميراث”، ورفضا منهم لدخول “غريب” على العائلة، فيما يقف المعارضون لفكرة زواج الأقارب موقف الخوف من حدوث شروخ في جدار العائلة نتيجة المشاكل التي قد تنشب بين الزوجين في المستقبل، ويستند هؤلاء إلى الآراء الطبية التي أثبتت احتمال إصابة الأبناء بأمراض وراثية من وراء زواج الأقارب.

الزواج المثالي

الزواج من أسمى الروابط الإنسانية التي دعا إليها الدين الإسلامي، ويقوم في الأساس على المودة والرحمة بين الزوجين كما قال الله تعالى ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) (سورة الروم  الآية21) ، لذلك يحتاج الزواج إلى التدقيق والتفكير ووضع الأسس السليمة التي تستقيم بها هذه العلاقة حتى لا تشكل مصدر تعاسة أو ضرر لأطرافها في المستقبل، ومن هنا يكون الاهتمام -أولاً- بالاختيار المناسب الذي يتطلب مراعاة عدة نقاط أولها الدين والخلق والتكافؤ الاجتماعي فضلا عن التوافق الطبي الذي لم يحظ باهتمام كبير به في الماضي، بالرغم من أن الدراسات أثبتت أنه عامل مؤثر على استقرار الحياة الزوجية وسلامة الأطفال في المستقبل.

ويعد زواج الأقارب من الأنماط الاجتماعية المفضلة في المجتمعات العربية، باعتبار أن الزواج المثالي هو ما يربط بين أبناء العمومة للحفاظ على الثروة داخل الأسرة، كما أن هناك بعض القبائل العربية التي لا تقبل زواج البنت إلا من ابن عمها، بالإضافة إلى البحث عن الأمان العائلي والروابط العائلية ، فضلا عن سهولة “التفاوض” في أمور الزواج والمهور بين الأقارب، الأمر الذي يجعل فكرة زواج الأقارب ترتبط جذريا بالعادات والتقاليد في معظم المجتمعات العربية، وهناك أغنية شعبية شهيرة تنصح بالزواج من ابنة العم لأنها “تشيل الهم”.

” السائد والمتنحي “

ورغم ذلك فإن ظاهرة زواج الأقارب تواجه الآن تحديا كبيرا أمام الدراسات العلمية التي أثبتت خطورته، وفي هذا الصدد يقول الدكتور ” أحمد شوقي إبراهيم” مستشار الأمراض الباطنية: “العوامل الوراثية لدى الزوجين إما “سائدة” وإما “منتحية”، وبوجود العوامل الوراثية السائدة والمتنحية التي تحمل الصفات الوراثية، تظهر تلك الصفات في الأبناء فمنهم من يشبه الأم ومنهم من يشبه الأب أو العم أو الخال وهكذا”.

يضيف د. إبراهيم: والعوامل الوراثية المتنحية تجتمع لدى الأقارب في “الجين” الأول بنسبة 1 :8 وتقل هذه النسبة في غير الأقارب فإذا كان هذا “الجين” في المجتمع بنسبة :1000 فإن احتمال تواجد هذا “الجين” في أحد الزوجين 1:500 وإذا كان في المجتمع بنسبة 1 :100 فان احتمال وجود  هذا “الجين” في أحد الزوجين 1 : 50 وفي كلتا الحالتين نجد أن نسبة تواجد الجين المتنحي في الأقارب (بنت العم أو العمة والخال والخالة ) يكون ثابتا 1 :8، وهذا يبين خطورة زواج الأقارب في ظهور الأمراض الوراثية وخاصة النادرة منها، فإن الرجل إذا تزوج بابنة عمه أو ابنة خاله وكان كل منهما يحمل نفس العامل الوراثي المتنحي لصفة صحية أو مرضية فإن 25 % من أولادهما ستظهر عليهم تلك الصفة و 50% منهم سوف يحملون العامل الوراثي المتنحي و 25% فقط لا يحملونه، أما إذا كانت درجة القرابة بعيدة فإن احتمال تواجد الجينات المماثلة أقل وبالتالي يكون احتمال حدوث المرض في الذرية أقل من هذه النسبة كأن يكون مثلا 1 : 16 والعكس صحيح.

وهناك فرض علمي يقول أنه في حالة انتشار العامل الوراثي المرضي المتنحي في المجتمع أكثر من 12 % وكانت أسرة في هذا المجتمع نقية وراثيا في هذه الحالة فإن الزواج بين الأقارب في هذه الأسرة أفضل كثيرا وأكثر ضمانا من زواج الأباعد.
وتوجد في بعض المجتمعات الغربية والإفريقية نسبة مرتفعة من هذا العامل، ففي بعض مناطق إيطاليا وصقلية يوجد العامل الوراثي المتنحي لمرض “الأنيميا المنجلية” والذي ينتشر في أفراد المجتمع بنسبة تصل 10% والنسبة أعلى في مجتمعات أخرى مثل بعض مناطق كينيا حيث تصل النسبة إلى 40% في أفراد المجتمع ، وفي هذه الحالة فإذا كانت هناك أسرة أفرادها انقياء وراثيا من هذا العامل الوراثي فيكون زواج الأقارب أفضل من زواج الأباعد .

ليس شرا كله

ولكن زواج الأقارب ليس شرا كله فهناك بعض الجوانب الطبية الإيجابية في هذا الزواج، فإذا كان في الأسرة عوامل وراثية مرغوبة ليست في غيرها من الأسر مثل صفات الجمال والذكاء والقوة، أو طول العمر وغيرها، حينئذ يكون زواج الأقارب أفضل من زواج الأباعد، فمن الممكن الاحتفاظ بالجينات الصحية الممتازة بين أفراد العائلة لجيل أو اثنين أما إذا استمر زواج الأقارب لأجيال متعاقبة فإنه لا يمكن تجنب الأمراض التي قد تحدث نتيجة العوامل المتعددة.

كما أن هناك أمراضا وراثية ليس لها علاقة بزواج الأقارب مثلا الأمراض الناتجة من اختلاف عامل “روسوس” بين الزوجين والطفل المغولي ومرض “تيرنر” ومرض “كلا ينفلتر” وأمراض أخرى ، وهناك أمراض وراثية مثل مرض النزف الدموي (الهيموفيليا) ومرض عمى الألوان هي أمراض وراثية تحدث في الذرية ولكنها ترتبط بالجنس، والتي تنتقل من الأم إلى الأبناء الذكور، وليس لها علاقة بكون الزوجة قريبة أو غير قريبة للزوج، ويمكن الوقاية من هذه الأمراض “بالاستشارة الوراثية” قبل الزواج.

وتوجد مجموعة من الأمراض التي تظهر نتيجة تجمع عدد من العوامل الوراثية ويطلق على هذه المجموعة اسم “الأمراض المتعددة الأسباب” مثل مرض ارتفاع ضغط الدم والسكر وتصلب الشرائيين وقرحة المعدة.

ومن  أبرز الأمراض الوراثية الشائعة الناتجة من زواج الأقارب، مرض “هيموغلوبين الدم”، والعيوب الخلقية الاستقلابية والأمراض أحادية الجينات الشائعة بأنها السبب الرئيسي للكثير من الأمراض والإعاقات لدى الأطفال، وفي هذا الصدد كشفت العديد من الأبحاث العلمية التي أجريت حول زواج الأقارب أن الإصابة بتلك الأمراض والإعاقات لدى الأطفال من أبوين قريبين مؤكدة حال عدم إجراء الفحص الطبي لدى الزوجين قبل الزواج، حيث تكون الفرصة أكبر لدى الزوجين من الأقارب في حمل صفات وراثية متنحية عندما يكون كل واحد من الأبوين حاملاً للصفة المسببة للمرض.

وربما كان ذلك سببا لقيام الجهات المسئولة في المملكة العربية السعودية بتوجيه القطاعات المختصة بالسعي نحو تطبيق “الفحص الوراثي” الطبي قبل الزواج حفاظاً على سلامة الأجيال والمجتمع من الأمراض والإعاقات، وإيمانا بالدور الطبي والعلمي في التأهيل والوقاية من الأمراض الوراثية والمحافظة على مستقبل الأجيال، والصحة العامة في البلاد.

إباحة شرعية

لم يرد نهي صريح في الإسلام عن زواج الأقارب، لأن الشريعة الإسلامية بنت الزواج كعلاقة إنسانية على أساس القبول بين الطرفين، لذلك منحت الأفراد الحرية الكاملة في اختيار الطرف الآخر في الزواج بما يتناسب مع الطبيعة الاجتماعية والمادية، وبما يحقق التوافق الاجتماعي والنفسي، كما أن الطب الحديث لم يؤكد أن زواج الأقارب ضار في كل أشكاله، ولكنه أوضح أن فيه جوانب إيجابية كثيرة وقد يكون نافعا في بعض الأحيان، في حالة ارتفاع نسبة الذكاء والجمال والقوة في العائلة، بالتالي فالقول بأن زواج الأقارب كله ضرر كلاما ينقصه الصحة الطبية والعلمية، كما أن ظهور بعض الأمراض الوراثية في الذرية في المجتمعات التي تنتشر بين أفرادها العوامل الوراثية المرضية المتنحية انتشارا نحو 1 :8 تتساوى نسبة ظهورها في الذرية في زواج الأقارب وزواج الأباعد على السواء.

وعن رأي الشرع في تلك القضية يقول “مسعود صبري” – الباحث الشرعي بكلية دار العلوم جامعة القاهرة – إن زواج الأقارب لم يرد نهي عنه ولا أمر به في الشرع، وإنما ترك الأمر للإباحة، حتى تدرس كل حالة على حدتها، فربما كان الأنسب أن يتزوج الرجل من قريبته لاعتبارات اجتماعية ترجح الزواج مع القرابة، وربما كان الزواج من الأقارب يفضي إلى قطع الرحم، أو زيادة المشاحنات بين الأقارب.

وقد حث الرسول ( صلى الله عليه وسلم) على صفات يختار الرجل زوجته على أساسها، ولم يذكر منها أن تكون الزوجة “قريبة ” أو “غريبة”  لا يربطها بزوجها نسب، بل طلب التخير من الصالحات الأكفاء، فعن عائشة, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تخيروا لنطفكم, وانكحوا الأكفاء, وانكحوا إليهم} .

ومما يدل على جواز الزواج من الأقارب أن الله تعالى زوج رسوله (صلى الله عليه وسلم) ابنة عمته “زينب بنت جحش”، بل لم يزوج الله نبيه إحدى النساء غيرها، وهي قريبته، وجاء النص القرآني يبيح هذا، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ” (الأحزاب الآية 50) فأباح له الزواج من بنات العم والعمة، والخال والخالة، وهي من أدنى الدرجات قربا، فعرفت الإباحة.

وفي تفسير الإمام “ابن كثير” لقوله تعالى: “وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك ” فإن الآية توضح العدل والوسطية في الإسلام، ورفض تفريط اليهود الذين أباحوا زواج الرجل من بنت الأخ وبنت الأخت، فجاءت هذه الشريعة الكاملة فأباحت بنت العم والعمة وبنت الخال والخالة، وحرمت ما فرطت فيه اليهود.

وبذلك فإن الزواج من الأقارب مباح في الأصل، على أن تراعى الظروف الاجتماعية والصحية للزوجين، في كل حالة من الحالات دون القياس على أخرى، مع القيام بالكشف الطبي وفحوص الزواج قبل إتمامه، إيمانا بأهمية الطب الحديث في كشف الأمراض الوراثية وتلافي أخطارها في المستقبل، لأن الأساس في الزواج هو الاستقرار والسكن والمودة والرحمة والبناء العائلي والقوامة الاجتماعية.

صلاح سعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى