- أسرة فيروز لم تستطع شراء “راديو” فكانت تجلس إلى الشباك لتسمع الأغاني من مذياع الجيران
- “جارة القمر” لم تكن تتوقع أن تصبح مطربة يوما.. وكان حلمها الحقيقي أن تصير “معلمة”
- “آل رحباني” رفضوا زواج “عاصي” منها بدعوى أنها لا تملك سوى صوتها.. ولا أحد “يتزوج الصوت”!
- الملحن حليم الرومي اقترح عليها أن يكون اسمها “فيروز” فابتسمت ظنا منها أنه يمزح معها
- “الرحبانية” لم يقتنعا بصوتها في البداية واعتبرا أنه لا يصلح للأغاني الحديثة بل “للألحان الشعبية” فقط
- زيجة “فيروز وعاصي” تعثرت في البداية وأصبحت “قضية رأي عام” حتى حسمها الشاعر سعيد عقل
تمثل مسيرة المطربة الكبيرة السيدة فيروز والأخوان “عاصي ومنصور رحباني” أو “الرحبانية” مع الفن، ظاهرة فريدة في تاريخ الموسيقى الشرقية، فقد استطاع هذا “الثلاثي الأسري” أن يتخطى بأعماله حاجز الإقليمية، إلى آفاق العالمية، بكل معنى الكلمة، فصاروا بالجهد والإبداع المستمر “سفراء الغناء العربي إلى النجوم”، كما أسماهم شاعر لبنان الأشهر الراحل سعيد عقل.
وقدم الأخوان رحباني مع فيروز، تأليفا وتلحينا، مئات الأغاني التي أحدثت ثورة في الموسيقى العربية، نظرا لتميزها بقصر مدتها وقوة معانيها وروعة موسيقاها البسيطة والساحرة في آن معا.
وشكّل الثلاثة نواة ظاهرة فنية أسرية “مثلثة الأركان”، مكونة من أخوين، لأكبرهما، أي “عاصي”، موقع الثقل موهبة وجهداً وتأثيراً في حياة هذه الظاهرة الفنية، وأصغرهما هو “منصور” الذي شارك أخاه الأكبر بصفته رفيق دربه الفني والمهني، أما زوجة الأخ “فيروز”، فهي صوت الظاهرة الفنية، وواجهتها ونجمتها. وربما استمدت هذه الظاهرة من “حصانة” التركيب العائلي والأسري قوتها الاستثنائية على الانتاج والثبات والاستمرار والديمومة حتى هذه اللحظة.
وُلدت نهاد وديع حداد التي اشتهرت فيما بعد باسم “فيروز” يوم 19 نوفمبر 1935 في إحدى قرى جبل لبنان، لأسرة فقيرة مكونة من الأب الذي كان عاملا بسيطا في مطبعة، والأم، وطفل يدعى “جوزيف” وثلاث بنات هن “هدى وآمال ونهاد”.
وكانت فيروز تحب الغناء منذ صغرها، إلا أن الأسرة لم تكن تستطيع شراء جهاز “راديو” فكانت تجلس إلى شباك البيت لتسمع صوته السحري قادما من بيت الجيران، حاملا أصوات كبار المطربين العرب وقتها.
ولم تكن الفتاة تتوقع أنها ستصبح مطربة يوما، بل كان حلمها الحقيقي أن تصير معلمة، كما أنها كثيراً ما صرحت في مناسبات أسرية عديدة وقتها بأنها “لن تتزوج أبدا”.
والتحقت بالمدرسة الابتدائية في سن السادسة، وغنت لأول مرة كتلميذة هاوية في الحفلات المدرسية، ثم انتقلت مع الأسرة لتعيش في بيت بسيط في منطقة “زقاق البلاط” في العاصمة بيروت، حيث بدأت مشوراها الفني عام 1941 مغنية “كورس” في الإذاعة اللبنانية.
وفي عام 1949، وكانت في الرابعة عشرة من عمرها، غنت في احدى الحفلات وكان بين الحضور سليم فليفل، المعلم بالمعهد الموسيقي اللبناني وقتها، والذي انبهر بصوتها، فأسرع الخطى نحو والدها “وديع” طالبا منه إلحاقها بالمعهد، فلم يمانع الأب في ذلك، خصوصا أن الدراسة في المعهد كانت “مجانية”.
نقطة التحوّل
تبنى “فليفل” فيروز فنيا، وتعهدها بالرعاية، فحفظت عنه عددا من الأدوار والموشحات القديمة والأناشيد، ثم ألحقها بفرقته التي كانت تذيع برامج مدرسية من دار الاذاعة اللبنانية، فسمعها الشيخ حافظ تقي الدين سكرتير برامج الاذاعة آنذاك، وقدمها إلى الفنان الكبير حليم الرومي في مارس 1950.
وكان هذا اللقاء مع الرومي نقطة تحول في حياة فيروز، على وظيفة في فرقة كورال الإذاعة، فأقبلت على حصص التدريب الموسيقي بكل حيوية ونشاط، وتعهدها الرومي أيضا بالرعاية، فأولى عنايته بتحسين مخارج الحروف والكلمات لديها، حيث اتضح له أن هذه الناحية بحاجة ماسة الى الصقل، فأعد لها أغنية “تركت قلبي”، وهي الأغنية الأولى التي حفظتها كمطربة خارج نطاق الأناشيد المدرسية. ولما حدد لها الموسيقي الكبير موعد الحفلة لكي تذاع على الهواء، اقترح عليها أن يكون اسمها الفني فيروز، فابتسمت لذلك ظنا منها أنه يمزح معها، الا أنها وافقت على ذلك بعد أن اقتنعت باسمها الجديد، ثم وضع الرومي ألحان أول أغنيتين لها وهما «يا حمام يا مروّح بلدك» و«أحبك مهما أشوف منك”.
غير أن انطلاقتها الفنية الحقيقية بدأت في مطلع عام 1951، عندما التقت في مكتب حليم الرومي بدار الإذاعة اللبنانية مع الأخوين “عاصي ومنصور” الرحباني، المولودين في بلدة “الطلياس” الجبلية، واللذين ينتميان أسرة ثرية ومحافظة من كبار العوائل اللبنانية.
وحكى منصور رحباني في مذكراته أنه عندما كان وشقيقه “عاصي” في سن الطفولة، كان والدهما حنا الرحباني يمتلك مقهى فيه “فونوغراف” قديم تدار عليه أسطوانات محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، وأنهما كانا يذهبان أحيانا إلى مقهى آخر يبعد عن بيتهما نصف كيلومتر للاستماع إلى أغنية عبدالوهاب الشهيرة “يا جارة الوادي” التي ظهرت عام 1927، والتي كانت بمثابة “السحر” بالنسبة لهما.
والغريب أن عاصي الرحباني، عازف الكمان في فرقة الاذاعة اللبنانية والملحن المبتدئ آنذاك، لم يقتنع في بادئ الأمر بفيروز، وكان “عاصي” وأخوه من بين الذين كلفهم الرومي بتلحين بعض الأغنيات لفيروز، فأجابه “عاصي” قائلاً: “إن صوت فيروز لا يصلح للأغاني الحديثة ولكنه يصلح فقط للأغاني الشعبية”، فرد عليه الرومي بقوله: “إن فيروز صوت غير محدد بمقدرته الفائقة على الأداء لكل الألوان الغنائية”.
وبعد أول لقاء جمع الثلاثي، وضع الأخوان رحباني أول لحن للمطربة الشابة وهي أغنية «غروب» التي حققت نجاحا محدودا، ولكن أبواب الشهرة تفتحت للثلاثي “فيروز وعاصي ومنصور” بعد أغنية “عتاب”. ومنذ ذلك التاريخ عرف الغناء العربي “الثلاثي” كظاهرة فنية تصنع شيئا جديدا ومثيرا ومختلفا عن الموسيقى السائدة وقتها.
“عاصي” يتزوج صوتا!
قرر “عاصي” في مطلع عام 1955 الزواج من فيروز، وهو القرار الذي لقي معارضة شديدة من “آل رحباني”، الذي أصيبوا بـ”الذعر” حسب تعبير “منصور” في مذكراته، حينما شاهدوا المطربة، فقد وجدوا أنها من أسرة أقل منهم شأنا، ولا تستكمل المواصفات اللبنانية التقليدية للزوجة الصالحة، فهي فتاة قروية ساذجة ليس لها شيء من حلاوة الملامح في الوجه، وفيها عيوب جسدية كثيرة، منها أنفها الذي كان أطول من الطبيعي، والذي أجرت فيه عملية تجميل فيما بعد، وهي غير متعلمة أو مثقفة وليس لديها سوى صوتها الجميل، ولا أحد في لبنان “يتزوج الصوت”، بل يستمع إليه المرء في الإذاعة فقط!
وتردد “عاصي” أول الأمر في الزواج من فيروز، وأصبح الموضوع “قضية رأي عام” في لبنان، وانتقل موقفه إلى الصحافة التي انحازت في أغلبها إلى فيروز وحملت على عاصي، وحثته على الزواج منها، داعية إياه إلى “يأخذ قراره بعيداً عن ضغوط أهله”.
وساهم الشاعر المعروف سعيد عقل في حسم الموضوع، فبعد زيارة له مع “عاصي” إلى بيت فيروز، ساعده عقل على حسم موقفه. وفي 23 يناير 1955، تزوج عاصي حنا الرحباني من الآنسة نهاد وديع حداد في كنيسة بمنطقة الأشرفية، واضعا حدا لهذا التردد، والذي حسمه تضامن معظم اللبنانيين مع فيروز، مؤكدين أنه لا يجوز للتقاليد والمواصفات اللبنانية التقليدية أن تقف حجر عثرة أمام زواج فنانين واعدين.
“منذورة” للحب المستحيل
كانت طبيعة القرية اللبنانية هي مصدر “المخيلة الرحبانية” التي غالباً ما تستحضر العالم في شخصياته وعلاقاته وأدواره كما لو أنه حلم يقظة، أو كما لو أنه عالم في حكايات الأطفال، وكانت فيروز التي هي بطلة هذه الحكايات “منذورة” دائماً للحب المستحيل أو المنتظر. وهو الحب الذي لا تكف عن النطق باسمه غناء في المواسم والأعياد واحتفالات الحياة اليومية.
ويقول الباحث الموسيقي جورج حداد: (واستمر الأخوان رحباني في هذا التجديد فألفا الموشح والقصيد بنبرات جديدة مع الاحتفاظ بالطابع القديم، كما أنهما أعادا الى الحاضر الموشحات القديمة بألوان جديدة. الا أنهما تأثراً ببعض ما جاء في أسفار “العهد القديم”، وظهر هذا التأثر على انتاجهما، دون أن يتدخلا فيه أحياناً، كما في مطلع أغنية “أنا لحبيبي وحبيبي الي” الذي ورد في سفر نشيد الأناشيد بحرفيته تارة: “أنا لحبيبي وحبيبي إلي”، وطورا بأشكال أخرى “حبيبي لي وأنا له” و”أنا لحبيبي وأشواقه لي”، وبتدخل مبدع أحياناً أخرى كما في الأغنيتين المتشابهتين: “أنا وسهرانه” و “دق الهوة ع الباب”، فإن فكرتهما مستوحاة كذلك من السفر نفسه).
وكتب الأخوان “عاصي منصور”، فضلا عن الأغاني، أشعارا كثيرة كانا يوقعانها باسم “الأخوين رحباني”، ومن دواوينهما المشتركة: “سمراء مها” ومسرحية شعرية مطبوعة بعنوان “غابة الضوء”.
ولعبت فيروز دور البطولة في 3 أفلام سينمائية هي: “سفر برلك”، و”بياع الخواتم”، و”بنت الحارس”. والأفلام الثلاثة أنتجتها “المؤسسة الرحبانية – الفيروزية” التي كان دورها تكريس نجومية فيروز في السينما، كما في الأغنية وعلى خشبة المسرح.
واشتركت في أكثر من 20 عملاً مسرحياً غنائياً عرضت ما بين سنة 1957 م وسنة 1977، ومن أشهر مسرحياتها: “البعلبكية، وجسر القمر، والليل والقنديل، وهالة والملك، والشخص، ويعيش يعيش، وأيام فخر الدين، وعودة العسكر، ولولو”.
ولكن علاقة فيروز بالأخوين رحباني” بدأت في الاهتزاز في أواخر السبعينيات حتى انقطع رباط العمل فيما بينهم، ولكنها استمرت تغني أغانيهم، وأضافت ألحان “زياد” المتأثر بموسيقى “الجاز” الأمريكية.
وأصيب “عاصي” بمرض في رأسه في بداية السبعينات من القرن الماضي، ودخل على أثره المستشفى، وعوفي منه جزئياً. لازمه تعب في أخريات أيامه.
وتدهورت صحة “عاصي” فجأة في منتصف عام 1986 ليدخل حالة الغيبوبة حتى أسلم أنفاسه الأخيرة في 11 يونيو 1987، وانتهت بذلك مرحلة ذهبية جمعت المبدعين الثلاثة، إذ اتجهت فيروز للتعاون مع ابنها زياد أساساً واتجه “منصور” إلى متابعة مسار المسرح الغنائي مع آخرين، حتى لحق بأخيه “عاصي” رحل عن الدنيا في 11 يناير عام 2009.
من بيروت إلى البرازيل
بعد وفاة زوجها، خاضت فيروز تجارب عديدة مع مجموعة ملحنين ومؤلفين من أبرزهم فليمون وهبي وزكي ناصيف، لكنها عملت بشكل رئيسي مع ابنها “زياد” الذي قدم لها مجموعة كبيرة من الأغاني أبرزت موهبته وقدرته.
ودفع الطموح الفني فيروز دفعا للانطلاق خارج حدود اللغة العربية، فكانت لها تجارب غنائية بالفرنسية والانجليزية، في باريس ولندن، فضلا عن بعض التراتيل الدينية باللغة اليونانية، وفي عام 1961 سافرت الى البرازيل والأرجنتين فأسر صوتها قلوب المهاجرين العرب هناك.
وعندما غنت فيروز في لندن عام 1986، قال مراسل “البي بي سي” إنها “إديث بياف العالم العربي”، نسبة إلى مطربة فرنسا الأولى، وحطمت حفلتها هذه مبيعات التذاكر التي حققها المطرب الشهير فرانك سيناترا، ووصلت سعر التذكرة في السوق السوداء إلى حوالي 1000 جنيه إسترليني.
وفي عام 1988 وفي فرنسا أحيت “فيروز” أكبر حفلة يقيمها مغن عربي في الخارج، حيث حضرها نحو 15 ألف متفرج.
ونالت المطربة الكبيرة العديد من الأوسمة، كما قدمت لها مفاتيح بعض المدن عرفان محبة وتقدير واحترام لفنها، ومن بينها “وسام الاستحقاق” اللبناني الذي تسلمته في عهد الرئيس كميل شمعون، و”وسام الأرز” من رتبة ضابط أكبر تسلمته في عهد الرئيس شارل حلو.
وفي عام 2010 حكمت المحكمة العليا اللبنانية بمنع فيروز من الغناء بناء على دعاوى قضائية أقامها كل من “غدي وأسامة ومروان” ورثة منصور الرحباني ضد المطربة، ومازالت القضية متداولة في المحاكم حتى الآن.