- لم يتزوج سوى مرة واحدة ولمدة 8 أشهر فقط.. وماتت زوجته الشابة فقرر أن يعيش أعزب بقية حياته
- مؤرخو سيرته الذاتية صوروه باعتباره طفلاً “جانحاً وغامضاً” وميّالاً إلى المغامرة على عكس الحقيقة
- تأثّر بالفلسفة.. وخصوصاً أعمال الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو الذي ترك أثرًا عميقًا في شخصيته
- هاجم الجيش الإسباني بمجموعة صغيرة من 2500 رجل في واحدة من أكثر الحملات جرأة في التاريخ
- الروايات التاريخية تؤكد أنه مات مبكراً بـ”السل الرئوي”.. والشائعات تزعم أنه لقي حتفه مسموماً
- القائد اللاتيني ترك خلفه تراثاً حافلاً من المُثل العليا بات مثالاً يُحتذى به في جميع أرجاء العالم
سيمون بوليفار، عسكري وسياسي فنزويلي شهير، من أصل إسباني لعب دورًا مهمًا في تحرير الكثير من دول أمريكا اللاتينية التي وقعت تحت طائلة الحكم الإسباني منذ القرن السادس عشر، مثل كولومبيا وفنزويلا والإكوادور وبيرو وبوليفيا وبنما، فهو “محرر أمريكا اللاتينية” بامتياز.
عاش الرجل 47 عاما فقط، قضى نصفها محارباً، ولم يتزوج سوى مرة واحدة ولمدة 8 أشهر فقط، وحينما ماتت زوجته قرر أن يعيش أعزب بقية حياته، حتى قيل إن الأب الروحي لأمريكا اللاتينية تزوج “الحرية”!
وُلد بوليفار في مدينة “كاراكاس” عاصمة فنزويلا حاليا، في 24 يوليو 1783، وكان والده ووالدته ينتميان إلى الطبقة الأرستقراطية بالمدينة، حيث تتحدر أصول العائلة من نبلاء إقليم “الباسك” الإسباني.
وحينما أتم عامه الثاني تُوفي والده بمرض السل، وبقيت والدته قائمة بجدارة على رأس العائلة، حتى تُوفيت بدورها في عام 1792، عندما بلغ الابن عامه التاسع، فانتقل بعد ذلك إلى معية جده لأمه، حيث عاش طفولة سعيدة وآمنة ومليئة بالمناسبات والذكريات العائلية البارزة، مع تأثره الشديد ببيئته الأرستقراطية.
حقيقة “الفتى الأسطوري”
هناك بعض القصص المختلقة وشبه الأسطورية التي شاعت عن بوليفار في أنحاء فنزويلا، وفي أمريكا اللاتينية عموماً، فيما بعد، والتي قدمته على أنه كان طفلاً “جانحاً وغامضاً” وميّالاً إلى المغامرة، حيث تم تصويره على عكس الحقيقة باعتباره فتى أسطورياً كما حدث مع معظم الأبطال الشعبيين في مختلف الثقافات عبر العالم، نتيجة لكتابات بعض الأدباء الرومانسيين لسيرة حياة بوليفار الذين اعتبروا أن “من غير المعقول نبوغ رجل غير عادي من طفل عادي”!
ولم يُعطِ أداء بوليفار المدرسي في مدرسة كاراكاس العامة، التي كان يديرها مجلس المدينة، مؤشرًا جيدًا، حيث عملت المدرسة بشكل سيء بسبب نقص الموارد والتنظيم. ولكن في المراحل التعليمية التالية، بعد ذلك، تحّسن أداؤه التعليمي نوعيًا وكيفيًا، وأتم الفتى دروس التاريخ وعلوم الطبيعة والكونيات، حيث أُرسل إلى إسبانيا حينما بلغ الخامسة عشرة من عمره لاستكمال دراسته هناك.
تأثر بوليفار أثناء وجوده في مسقط رأس العائلة “إسبانيا” بكتب الفلسفة، ودرس بشكل خاص أعمال الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو، الذي ترك أثرًا عميقًا في شخصيته، فضلا عن الفيلسوف الإنجليزي جون لوك، وفولتير ومونتيني، وغيرهم من أساطين الفكر الغربي الكلاسيكي.
وتعرّف الشاب آنذاك إلى فتاة من أصول نبيلة تُدعى “ماريا تيريزا”، وكان وقتها في السابعة عشرة من العمر، بينما كانت هي في سن العشرين. وفي أغسطس عام 1800، قبلت “ماريا” الخطبة إلى بوليفار، وعُقد الزواج يوم 26 مايو 1802 في كنيسة “سان خوسيه” بمدريد.
وفي 1802 انتقل الزوجان إلى فنزويلا، وعاشا على بعد 30 كم من العاصمة “كاراكاس”. وبعد إقامة قصيرة، انتقلا إلى المنزل الكبير لآل بوليفار في سان ماتيو. وعقب ذلك، أصيبت الزوجة الشابة بمرض الملاريا، ليعود الزوجان إلى كاراكاس من جديد بحثا عن أطباء كبار لعلاجها، غير أنها تُوفيت جراء هذا المرض العضال وقتها في 22 يناير 1803، لينتهي بذلك الزواج الذي استمر لمدة 8 أشهر فقط.
وقرر بوليفار تكريس وقته للسفر والسياحة عبر أوروبا، لكي يخفف من حدة الألم النفسي الذي ألَّم به عقب وفاة زوجته. وأقسم وهو في هذه الحالة ألا يتزوج مرة أخرى. وعلى الرغم من خوضه العديد من قصص الحب، كما يؤكد مؤرخو سيرته الذاتية، إلا أنه تمسك بكلمته هذه، وعاش أعزب حتى نهاية حياته.
وفي نفس العام الذي تُوفيت فيه زوجته، سافر بوليفار إلى باريس، حيث عمد برفقة معلمه سيمون رودريجيث إلى قراءة الكلاسيكيات الأدبية الفرنسية، ثم سافر بعدها إلى إيطاليا برفقة رودريجيث أيضاً، وكلاهما كانا حاضرًا في حفل تتويج القائد الفرنسي الأشهر نابليون بونابرت في ميلانو، بوصفه ملكًا لإيطاليا في 26 مايو 1805.
وعاد الرجل مجدداً إلى فرنسا، حيث التقى المستكشف الألماني ألكسندر فون هومبولت، الذي أكد له أن المستعمرات الإسبانية في حالة استعداد للتحرر، فراقت له الفكرة وأخذ يمعن النظر في تحرير بلاده، حيث كان متأثرًا بالثقافة الأوروبية وبغزوات نابليون في إسبانيا وشخصيته البطولية، التي شكلت محطة مهمة في حياة بوليفار.
القتال حتى الموت
في 15 أغسطس 1805، أقسم بوليفار على تحرير بلاده من الاحتلال الإسباني، أو “القتال حتى الموت”. وفي العام التالي، عاد إلى فنزويلا لعقد بعض المفاوضات العائلية من أجل حشد الجهود للقضية الثورية، خصوصا أن الضغوط التي مارسها نابليون طيلة عام 1808، أدت إلى سلسلة من الأحداث التي أدت إلى تفاقم الوضع داخل إسبانيا، حيث تنازل الملك كارلوس الرابع عن العرش لنجله “فريناندو”، فتخلى هذا – بدوره- فيما بعد عن السلطة لـ”بونابرت”، عقب أحداث التمرد التي اندلعت في البلاد، فأورثتها ضعفاً سياسياً كان مواتياً تماماً للحراك الثوري ضد المستعمر الإسباني في القارة اللاتينية.
عندما عاد بوليفار إلى مدينة كاراكاس، منتصف عام 1807، وجدها غارقة في جو من الاضطراب الاجتماعي والسياسي، حيث كانت يحكمها حكام مؤقتون تحت إشراف القائد الإسباني الوصي على العرش، خواكين دي موسكيرا إيه فيجيروا، والذي كان يثير امتعاض مجتمع المدينة، ما كان سببًا مساعدًا على تصاعد الأحداث لصالح حروب الاستقلال.
وكانت عودة بوليفار إلى كاراكاس عن اقتناع تام بالحاجة الملحة إلى استقلال أمريكا عن إسبانيا، حيث اشترك في اجتماعات وطنية عدة للتآمر على السلطات الإسبانية، وعمل جاهدًا على إقناع أقاربه وأصدقائه بأن الاستقلال هو الخيار الأمثل للشعوب اللاتينية.
وفجأة، ومن دون سابق إنذار، تغيرت الأمور خلال أيام قليلة، وتسببت سلسلة من الأحداث المتلاحقة في إحداث هزة عنيفة في كاراكاس. ففي أوائل يوليو 1808، تلقى الحاكم نسختين من صحيفة “ذي تايمز” اللندنية اليومية، التي أوردت خبر التنازل عن عرش إسبانيا لصالح نابليون.
اشتعال حرب الاستقلال
وفي العام 1811، أُعلن عن إنشاء “المجلس الوطني استقلال فنزويلا” فانخرط بوليفار في الجيش تحت قيادة فرانسيسكو ميراندا، وأصبح عقيداً ثم عميداً، وواصل الرجل ثورته وأقام اتصالات مع ثوار السهول الذين انضموا اليه، وفي ربيع 1819 قاد حملة للهجوم على القوات الإسبانية في غرناطة الجديدة. ويعد هذا الهجوم “من أكثر الحملات جرأة في التاريخ” إذ قامت به مجموعة صغيرة لم يتعد عددها 2500 رجل، سلكوا طريقاً صغيراً في جو ممطر، وقطعوا بحيرات وجبالاً، كان الاسبان يعتبرون المرور فيها متعذراً وحتى مستحيلاً.
وانتقل بوليفار بعد ذلك إلى كولومبيا، حيث عمد إلى تكوين جيش من المسلحين والوطنيين، وبدأ عمليات حرب الاستقلال في 20 يوليو 1810، وقام بكتابة مخطوط أُطلق عليه بيان “كارتاخينا السياسي”، في إطار رغبته في تحرير كل من فنزويلا وكولومبيا، والسعي إلى انعتاق شعبيهما من نير الاستعمار الإسباني. وذكر بوليفار في البيان المشكلات المستعصية آنذاك التي أدت إلى صدوره، ومنها عدم وجود حكومة مركزية؛ وضعف البلاد في مواجهة العدو الخارجي؛ ومساوئ الانهيار الأخلاقي الذي ساد في صفوف القوات الأجنبية؛ وعدم وجود جيش وطني نظامي شامل؛ ومسألة الإفلات مِن العقاب من الجرائم؛ والتأثير السلبي لرجال الدين آنذاك حيال التحرر من الهيمنة الأجنبية والخضوع للأنظمة التابعة للمستعمر، إضافة إلى الحالة الاقتصادية الحرجة التي ألقت بظلالها القاتمة على شعبي البلدين.
وشنت قوات بوليفار حملة لتدمير جموع الجيوش الموالية للملكية الإسبانية، التي كانت متمركزة على ضفاف نهر ماجدالينا، مع زيادة تدريب قواته العسكرية. ونتيجة لهذه الحملة، تمكن بوليفار من تحرير العديد من بلدات “ماجدالينا” ومنها “تنريفي والجوامال والبانكو وتامالاكي وبويرتو ريال دي أوكانيا”، إضافة إلى تمكنه من هزيمة مختلف عصابات الجيش الملكي الموالي التي كانت تشغل هذه المنطقة.
وسرعان ما بدأت قوات بوليفار السيطرة على الوضع، وكسب أراضٍ جديدة من العدو، الذي كان يهرب أمام مفاجأة “الهجوم المباغت” والتقدم الذي تحرزه القوات الثورية ضد الجيش الملكي. وحاول الإسبان اتخاذ الإجراءات اللازمة، بعد الكارثة التي ألمت بهم عقب هجوم بوليفار عليهم، غير أن الجيش الإسباني مُني بهزيمة قاسية.
وعقب استسلام قوات الجيش الموالية للملكية الإسبانية، أصبح طريق بوليفار ممهدًا للوصول منتصرًا إلى كاراكاس في 6 أغسطس 1813، وبعد ذلك، حقق نصرًا عسكريًا آخرًا في موسكيتيرو، ومُنح لقب “القائد العام”، فيما تم التصديق على لقبه الجديد “مُحرر أمريكا اللاتينية”، ليصبح ملازمًا له طيلة حياته.
ومن خلال تحليل مآثره الحربية، يظهر أن بوليفار استخدم أساسيات تخطيط واستراتيجية لتطوير عملياته، وفي بعض الأحداث، أظهر معرفته لفنون الحرب التكتيكية الكلاسيكية، على سبيل المثال، أسلوب “الكتيبة المائلة” القتالي، والذي يتركز فيه الهجوم على جناح واحد من خط العدو، لإفساح المجال لتقدم موضعي على قوة قد تكون أضعف عمومًا.
وفي مجلد كبير يزيد على 600 صفحة، قدمت الكاتبة الإسبانية ماري أرانا “السيرة الأسطورية” للأب الروحي لقارة أمريكا اللاتينية، والذي يوصف بأنه “جورج واشنطن الجنوب” في إشارة إلى مكانته الكبيرة في تاريخ القارة التي تشهد دولها الكبرى اليوم مرحلة جديدة من التقدم والرفاهية في سنوات قليلة، بعد أن كسرت طوق التخلف الاقتصادي بصورة أدهشت العالم كله.
وبعد رحلة كفاح طويلة وحروب دامية من أجل الحرية، تُوفي المُحرر سيمون بوليفار في 17 ديسمبر 1830، عن عمر ناهز 47 عامًا فقط، تاركاً خلفه تراثاً حافلاً من المُثل العليا التي أصبحت مثالاً يحتذى به في جميع أرجاء العالم، ومنها دول عربية مثل مصر التي أقامت له تمثالاً في ميدان شهير بالقاهرة.
ولا يزال لغز وفاة بوليفار قائماً حتى الآن، حيث أكد العلماء الذين يدرسون رفاته أنهم غير قادرين على تحديد سبب الوفاة بدقة، إذ تذهب معظم الروايات التاريخية إلى أنه مات بالسل الرئوي، لكن العلماء لم يتوصلوا إلى أدلة تقود إلى تأييد هذه النظرية أو استبعادها، كما أنهم لم يجدوا أي دليل على أنه لقي حتفه مسموماً كما أُشيع فيما بعد عبر روايات غير موثقة. وكأي رمز سياسي، مازال اسم “بوليفار” حتى هذه اللحظة مصدراً للعديد من الأساطير التي حيكت حوله، وأصبحت هذه الأساطير جزءاً من التراث “السحري” لهذه القارة التي أغنت العالم بتراثها الأدبي.