المجلةبنك المعلومات

ليوناردو دافينشي.. العالم الذي سبقت “شطحاته” عصره بـ500 سنة!

 

  • كان ابنا “غير شرعي” لوالده الثري.. ورفضت أسرته الاعتراف بأمه الفقيرة حتى وفاتها
  • عاش طفولة قاسية وترك منزل والده للعيش في بيت جده بسبب خلافات على “الميراث”
  • رسم “الموناليزا” على مدار 7 سنوات لتصبح أشهر لوحة في تاريخ الفن العالمي
  • اشتُهر بغرابة أطواره وخياله الجامح.. ولكنه كان مثالا للدأب والصبر والمثابرة
  • مخترعاته “العجيبة” وأفكاره بدأت تظهر على أرض الواقع بعد نحو خمسة قرون من وفاته
  • ترك أكثر من 6000 صفحة من اليوميات المملوءة بتأملاته الذاتية و”قوائم البقالة”

 

ليوناردو دافينشي، العالم الإيطالي الأشهر الذي عاش في القرن الخامس عشر خلال ما عُرف بـ”عصر النهضة” الأوروبي، واحد من العلماء الموسوعيين في تاريخ العالم، فقد كان رساما، ومهندسا، وعالم نبات، وجغرافيا، وجيولوجيا، وموسيقيا، ونحاتا، ومعماريا، وجسدت كل هذه العلوم والمواهب شخصيته المثيرة للجدل، والتي تميزت كما وصفه المؤرخون بـ”فضول جامح” و”خيال إبداعي محموم”.

وليوناردو دافينشي هو العالم الذي سبقت “شطحاته” عصره بـ500 عام، فقد كان أول من فكر في صنع “الغواصة”، وأول من استغل “الطاقة الشمسية” في أغراض المعيشة، وقد بدأت مخترعاته “العجيبة” وأفكاره هذه تظهر بالفعل على أرض الواقع بعد نحو خمسة قرون من وفاته.

طفل غير شرعي

وُلد ليوناردو دي سير بييرو دافينشي في 15 إبريل عام 1452، في الساعة الثالثة صباحا في مزرعة تبعد حوالي 3 كم عن بلدة تسمى “أنكيانو” حيث كانت تعيش والدته، وهي امرأة من طبقة فقيرة تُدعى “كاثرين”، وكان والده المتحدر من عائلة ثرية ذات أصل عريق يعمل كموثق قضائي، ويرتبط مع أمه بعلاقة غير شرعية، وقد أنجبا طفلهما “ليوناردو” دون زواج، وهو شيء لا أخلاقي، لكنه كان شائعا في أوروبا في ذلك العصر.

عاش “ليوناردو” الصغير طفولة قاسية صعبة، فقد حُرم من رعاية وحنان الأم في تلك الفترة، فالأسرة الثرية اعترفت به ابنا لها بشكل غير رسمي، لكنها رفضت تماماً الاعتراف بأمه الفقيرة، التي تزوجت من رجل آخر، وعاشت في منطقة بعيدة عن طفلها حتى وفاتها.

وعلى الرغم من وضعه كطفل غير شرعي، وزواج والده من امرأة أخرى غير أمه، أنجب منها عدة أطفال، فقد رحبت العائلة العريقة بالطفل” ليوناردو”، وسجله جده باسم الأسرة في بيان السجل العقاري بالمدينة، وهو ما مكّن الصغير من الحياة فيما بعد بكرامة وسط أقرانه من الأطفال.

وحظي الابن بدعم كبير من والده، خاصة عندما لاحظ الأب اهتمامه بالرسم، وساعده بمعونة جده الذي احتضنه دون أحفاده الآخرين، وشمله برعايته، من أجل تنمية موهبته بكل السبل. وأرسل الجد حفيده الأثير “ليوناردو” لكي يتعلم فنون الرسم في مرسم كان يسمى “مشغل فريكو”، وكان هذا المشغل في ذلك الحين من أكبر المشاغل الموجودة في فلورنسا، وعاش دافنشي هناك لمدة سنة، ثم عاد إلى مسقط رأسه فيما بعد.

وبعد وفاة أبيه مبكرا، وكانت عمر الابن وقتها 12 عاما فقط، لقي الصبي “لوناردو” الكثير من المشاكل والمتاعب بسبب الخلاف بين الأبناء على الميراث .ويُعتقد أن “ليوناردو” الشاب ترك منزل أبيه لإخوته، وانتقل إلى الريف حيث عاش في منزل جده بعد ذلك، نظرا لإحساسه بكراهية أشقائه له باعتباره ابنا غير شرعي لوالدهم، فضلا عن غيرتهم منه بسب مواهبه الفنية التي ظهرت مبكرا.

وفجأة توفى جده عن عمر ناهز 96 عامًا سنة 1468، لكنه نقل ميراثه قبل موته إلى حفيده “ليوناردو” خوفا على مستقبله، ومن ثم انتقل الشاب للإقامة في مدينة “فلورنسا” التي  كانت المركز الرئيسي للعلوم والفنون في إيطاليا وقتها، حيث تلقى أفضل ما يمكن أن تقدمه هذه المدينة الرائعة من تعليم، بفضل الميراث الذي تركه له والده وجده.

حقق “ليوناردو” مكانة اجتماعية مرموقة في “فلورنسا”، حيث كان يعيش في تلك الفترة من حياته، فقد كان وسيما، لبقا وذا مهارة في الحديث مع الناس، كما كان يستطيع العزف على الآلات الموسيقية بمهارة لافتة، إضافة إلى قدرته على ممارسة فن الرسم، بنفس المهارة.

وفي عام 1472، أصبح “دافنشي” عضوا في “دليل فلورنسا للرسامين”، وهو أرفع دليل فني من نوعه آنذاك، ثم عمل بناء على ذلك في مهنة “معلم رسم”، وكان عمله الفني الأول بخلاف التدريس هو إنجاز رسم جداري لكنيسة “القصر القديم” في المدينة، وكانت أعماله تتسم في فترة الشباب هذه بالتركيز على الوصف الحقيقي للطبيعة، فضلا عن الزخرفة المعتمدة على أساليب كثيرة، والتركيز على عناصر النباتات أو تعبيرات الوجوه الصامتة، كما عمل أيضا كنحاّت في فترة شبابه، وصنع من الطين بعض الرؤوس لسيدات ضاحكات تم تصنيفها فيما بعد ضمن “فن الطباشير”.

“شطحات” دافنشي

منذ يناير عام 1474 وحتى خريف 1478، لم تُسجل أي أعمال معروفة للرجل، ويُقال إنه دخل في فترة “صمت إبداعي” خلال هذه الأعوام الأربعة، لكن المعلوم أنه درس تشريح الجثث في مشارح المستشفيات، كما درس الفيزياء والميكانيكا من خلال التجارب المباشرة.

وبين ربيع وصيف عام 1482 رحل “دافنشي” من فلورنسا إلى مدينة ميلانو، وكانت الأخيرة واحدة من المدن القليلة في أوروبا التي يبلغ عدد سكانها 100 ألف نسمة، حيث عاش في منطقة شعبية مكتظة بالسكان، ومارس الرسم هناك على نطاق واسع، وخصوصا وجوه النساء الحسناوات، وكان مُصرا على البقاء في ميلانو التي بهرته بانفتاحها على العلوم الحديثة الناجمة عن الحملات العسكرية المستمرة.

والتحق “ليوناردو” بعد ذلك بخدمة النبيل لودوفيكو سفورزا، دوق ميلانو، كواحد من العلماء في الحاشية، بعد أن صرح له عبر رسالة بأنه “قادر على صنع تماثيل من المرمر والطين والبرونز وبناء جسور متنقلة ومعرفته بتقنية صنع قاذفات القنابل والمدافع والسفن والعربات المدرعة، إضافة للمنجنيق وأدوات حربية أخرى”.

وفي ذلك الوقت، كتب رسالة علمية بعنوان “تطبيقات” مكونة من تسع فقرات، وصف فيها لأول مرة تصاميمه الهندسية الفريدة من نوعها، كما وصف المعدات العسكرية التي ابتكرها بنفسه، والأعمال الهيدروليكية، والهندسة المعمارية، وكيفية التعامل معها في وقت السلم أو أثناء الحروب، وهي أشياء بدت للناس وقتها غريبة، كانت متقدمة على هذا العصر بشكل ملفت، وكان بعض هذه المخترعات سابقا لعصره بأكثر من 5 قرون.

وأحيانا ما تُقدّم نشاطات دافنشي الإبداعية في مجال الاختراعات والهندسة وتصميم الآلات المبتكرة، حتى هذه اللحظة، على أنها مجرد “شطحات” فنان، في ظل اتهامات بالمغالاة في تقدير عبقريته. وفي هذا الإطار نُظر إلى التصاميم التي وضعها الرجل لعدد من الآلات الحربية، على أنها ابتكارات وهمية شغل بها أوقات فراغه، وتنتمي إلى عالم “الخيال العلمي”، غير أن هذه النظرة غير صحيحة على الإطلاق، ذلك أن مخترعات دافنشي العلمية والتقنية، والتي اشتغل عليها تحديداً خلال الأعوام الوسطى من حياته، لم تكن مجرد “شطحات”، بل كانت محاولات علمية جدية من أجل الوصول إلى ابتكار عتاد حربي يمكن مدينة ميلانو من تحقيق انتصارات عسكرية على أعدائها.

وشهدت القرون التالية بالفعل ولادة أشكال متطورة وحقيقية من كل الابتكارات التي كان دافنشي رائداً فيها، ومن بينها الأسلحة العسكرية الفتاكة مثل الدبابة، والرشاشات المتعددة الطلقات، والمظلات “الباراشوت”، والطائرة المروحية، وغيرها من الأسلحة التي عرفها العالم على أرض الواقع بعد خمسة قرون من ذلك العصر.

وطرح دافنشي في تلك الرسالة العلمية المعنونة “تطبيقات” لأول مرة في التاريخ إمكانية صناعة “غواصة” من أجل الغوص في أعماق البحار، كما أنه أول من حاول استغلال الطاقة الشمسية في أغراض حياتية، مثل التدفئة وتسخين المياه، من خلال تقنية “تركيز المرايا العاكسة”.

كما طرح أفكارا غريبة حتى بمقاييس عصرنا الراهن، ومنها فكرة إمكانية “طيران الإنسان”، وقد كانت فكرته قائمة على أساس أن الإنسان يمكنه أن يطير في الهواء مثل الطيور تماما، بسبب وجود نوع من التجانس بين جسمي الطائر والإنسان، وأكد أن هذا الحلم يمكن أن يتحقق إذا توفرت له الإمكانيات، وبدأت تراوده فكرة أن يقوم بصنع آلة تشبه الجناحين تُمكن الإنسان من الارتفاع في الهواء، لكنه لم يتمكن من إنهائها عل الوجه المطلوب. ويُقال إن دافينشي جرب هذه الآلة مع أحد تلاميذه فسقط وكُسرت ساقه، ولكن لا يوجد دليل حقيقي على ذلك.

أشهر لوحة في العالم

وبعد 4 أعوام من العمل في حاشية دوق ميلانو، كان يشتغل خلالها أيضا بتدريس الرسم والنحت والهندسة لتلاميذه، استأنف دافنشي نشاطه الإبداعي من جديد.

واشتُهر الرجل في تلك الفترة بغرابة أطواره، وميله الجامح إلى الخيال، كما طالته اتهامات بممارسة سلوكيات شائنة، غير أنه كان – رغم ذلك- مثالا للدأب والصبر والمثابرة على أعماله الإبداعية، خصوصا لوحاته الشهيرة، ومنها لوحة “عذراء الصخور” التي رسمها مرتين، تم رفض الأولى، وقُبلت الثانية، وهي موجودة حاليا بمتحف “اللوفر” في العاصمة الفرنسية باريس.

أما لوحته “الموناليزا” أو “الجيوكندا” فهي أشهر لوحة في العالم على الإطلاق، وهذه اللوحة تصور سيدة مبتسمة ابتسامة غامضة تُدعى “ليزا” كانت زوجة لتاجر ثري من النبلاء اسمه فرانشيسكو بارتولوميو ديل.

رسم دافنشي “الموناليزا” على مدار حوالي 7 سنوات غير متصلة، فقد بدأها عام 1503 وانتهى من رسمها عام 1510، وخلال تلك الفترة عانى الرسام كثيرا مع “السيدة ليزا” لجعلها تضحك أو تبتسم على الأقل، فاستخدم معها شتى وسائل الضحك، لدرجة أنه أحضر لها مهرجا لكي يقوم بإضحاكها، وفي نهاية المطاف تحركت شفاه “الموناليزا” لتكشف عن هذه الابتسامة الباهتة!

ويرى مؤرخو الفن في هذه اللوحة مزيجا بين الطبيعة والبشر، يتجاوز كل الحدود التقليدية، ولعل هذا هو السر الذي أعطى لـ”الموناليزا” كل هذه الأهمية، فقد تمكن الفنان من أن يجمع فيها بين مشاعر متناقضة من الحزن والفرح في وجه إنساني واحد.

وبعد مسيرة طويلة مع الفن والعلم، توفي دافنشي في 23 أبريل عام 1519، عن 67 سنة، وكان قبل ذلك بأيام قليلة قد كتب وصيته الأخيرة، التي أوصى فيها بأن توهب معظم ممتلكاته لأبناء إخوته في فلورنسا، كما وهب بعضها من أجل الفقراء والمحتاجين، ولكن بعد ذلك بفترة تم نبش قبره من قبل بعض المخربين خلال فترة الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت.

وترك دافنشي وراءه، فضلا عن ثروته، أكثر من 6000 صفحة من اليوميات المملوءة بتأملاته الذاتية و”قوائم البقالة” والتصاميم الغريبة، كما أنّه ذكر فيها بالتفصيل مصادر إلهامه ورغبته في “الشهرة الأبدية” وأحزانه العميقة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى