توصل علماء بريطانيون مؤخراً إلى طريقة يمكن بها أن يستعيد عقار “البنسلين” كفاءته الكاملة كمضاد حيوي، بعد اكتشاف كيفية اكتساب البكتيريا المُسببة لمرض “الالتهاب الرئوي” مقاومة للمضادات الحيوية.
وركز الباحثون الذين يعملون في جامعة “واريك” البريطانية على مرض الالتهاب الرئوي “ستريبتوكوكاس” والذي يقضي على خمسة ملايين طفل سنوياً في العالم ، بعد أن أصبحت البكتيريا المسببة لهذا المرض في الأعوام الأخيرة أشد مقاومة لعقار “البنسلين”.
وأوضح العلماء أن هذه المادة تزود البكتيريا بشبكة حامية حول الخلية الهشة في داخلها، ووجد العلماء أن البروتين يعمل “كإنزيم” له دور حيوي في تشكيل التركيبة التي تزيد من قوة هذه البكتيريا.
و”البنسلين” هو عَقّار قوي يستخدم في علاج الأمراض التي تسببها البكتيريا، وهو أول مضاد حيوي استخدم لحماية الإنسان من الأمراض الخطيرة، وقد اكتشفه العالم البريطاني السير ألكسندر فليمنج عام 1928م، ومنذ منتصف الأربعينيات من القرن الماضي أصبحت هناك عدة أشكال من هذا العقار متوفرة للاستخدام طبيًا.
ودفع اكتشاف “البنسلين” بالطب إلى الأمام كثيرًا، وشجع على البحث العلمي في هذا المجال، ما أدى إلى اكتشاف عدة مضادات حيوية أخرى، وللبنسلين دور كبير في علاج أمراض كثيرة مثل الالتهاب الرئوي، والحمى الروماتيزمية، والحمى القرمزية، وغيرها.
ولد ألكسندر فليمنج مكتشف “البنسلين” في “لوخفيلد” باسكتلندا عام 1881م ، وبعد تخرجه في المدرسة الطبية في لندن انشغل في دراسات التعقيم، وعندما التحق بالجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى، كان مهتما بالجروح والعدوى، ولاحظ أن الكثير من المطهرات تؤذى خلايا الجسم أكثر مما تؤذيها الميكروبات نفسها، ولذلك أيقن فليمنج أن الذي تحتاج إليه هو مادة تقضى على البكتيريا، وفي نفس الوقت لا تؤذى خلايا الجسم.
وفي عام 1922م وبعد نهاية الحرب، ذهب فليمنج إلى معمله ليستكمل دراساته واهتدى إلى مادة أطلق عليها اسم “ليسوزيم”، وهذه المادة التي يفرزها الجسم الإنساني هي خليط من اللعاب و الدموع، وهي لا تؤذى خلايا الجسم، وتقضى على بعض الميكروبات، و لكنها لا تقضى على الميكروبات الضارة بالإنسان، ولم يكن هذا الاكتشاف شيئا عظيما على الرغم من طرافته.
أما الاكتشاف العظيم لفليمنج فقد حدث في عام 1928م، عندما تعرضت إحدى مزارع البكتيريا للهواء وتسممت، ولاحظ فليمنج أن البكتيريا تذوب حول الفطريات في المزرعة التي أعدها في المعمل، واستنتج من ذلك أن البكتيريا تفرز مادة حول الفطريات، وأن هذه المادة قاتلة للبكتيريا العنقودية، وليست سامة للإنسان أو الحيوان وأطلق عليها اسم “البنسلين” أي “العقار المستخلص من العفونة”.
وفي عام 1929م نشرت نتائج أبحاث فليمنج ولم تلفت النظر أول الأمر، رغم إعلانه أن هذا الاكتشاف من الممكن أن تكون له فوائد طبية خطيرة، ولم يستطع فليمنج أن يبتكر طريقة لاستخلاص هذه المادة أو تنقيتها، وظل هذا العقار السحري لمدة عشر سنوات دون أن يستفيد منه أحد.
وفي عام 1930م قرأ اثنان من الباحثين البريطانيين هما هوارد فلورى وارنست تشين ما كتبه فليمنج عن اكتشافه الخطير، وأعاد الاثنان نفس التجارب و جربا هذه المادة على حيوانات المعمل، و في عام 1941م استخدما “البنسلين” على المرضى، وأثبتت تجاربهما أن هذا العقار الجديد في غاية الأهمية.
وبمساعدة من حكومتي الولايات المتحدة وبريطانيا تسابقت الشركات الطبية على استخلاص مادة “البنسلين” بكميات كبيرة، وتوصلت هذه الشركات إلى طرق أسهل لاستخلاص المادة السحرية وإنتاجها وطرحها في الأسواق.
وكان أول إنسان يستخدم “البنسلين” هو رجل شرطة إنجليزي عام 1941م، وكان يعاني تسمُّمًا في الدم، ولكنه توفِّي لعدم وجود كميات كافية من العقار في ذلك الوقت، كما تم استخدامه في علاج جرحى الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1944م أصبح في متناول المدنيين في بريطانيا والولايات المتحدة، وعندما انتهت الحرب في عام 1945م أصبح “البنسلين” في خدمة الجميع.
وقد أدى اكتشاف “البنسلين” إلى استخدام الكثير من المضادات الحيوية واكتشاف عقاقير أخرى، ولا يزال “البنسلين” هو أكثر هذه العقاقير انتشارا حتى اليوم، وترجع أهميته في أنه ما زال يستخدم لأغراض طبية كثيرة، وفي علاج كثير من الأمراض مثل الزهري والسيلان والحمى القرمزية والدفتيريا والتهابات المفاصل والالتهاب الرئوي وتسمم الدم وأمراض العظام والسل و”الغرغرينة” وغيرها.
هناك عدة أنواع من “البنسلينات” يتم الحصول عليها من العفن الذي ينتمي إلى جنس “البنسيليوم” بعد معالجتها بطرق مختلفة، وإضافة لهذه “البنسلينات” الطبيعية توجد بعض الأنواع شبه الاصطناعية الستخلصة عن طريق المعالجة الكيميائية لبعض “البنسلينات” الطبيعية، ومن هذه الأنواع عقاقير “الأمبيسلين” و”الأموكسيسلين” و”البنسلين 5″.
وتفتك “البنسلينات” بالبكتيريا عن طريق منع تكوين الجدار الخلوي المتيبس الذي تحتاج إليه البكتيريا كي تعيش، ولا يؤثر “البنسلين” في الخلية الحيوانية، فخلايا الإنسان والحيوان ليس لها جدران خلوية متيبسة كما في البكتيريا.
وتُعطى بعض “البنسلينات” بالفم، وبعضها الآخر لا يعطى إلا عن طريق الحقن، وذلك لتأثرها وتفككها بأحماض المعدة قبل امتصاصها ووصولها للدم، ولا تسبب تأثيرات جانبية إلا في بعض المرضى ذوي الحساسية لهذه العقاقير، حيث تسبب بعض الأعراض مثل الحمى والطفح الجلدي، وقد تسبب تأثيرات خطرة مثل صعوبة التنفس وحدوث الصدمات، فإذا أصيب إنسان بالحساسية لأي من أنواع “البنسلينات”، فعليه أن يكون حذرًا من جميع أنواع “البنسلينات” الأخرى.
وقد واجهت الأطباء بعض المشكلات عند استخدام عقار “بنسلين ج”، فقد اكتشفوا عجز الجسم عن امتصاصه وإيصاله إلى الدم، عندما يؤخذ عن طريق الفم، وعجز “بنسلين ج” عن الفتك ببعض البكتيريا، وإضافة الي ذلك لوحظت قدرة بعض البكتيريا، وخصوصا البكتيريا العنقودية الذهبية المسببة لتسمم الدم وذات الرئة، على اكتساب مقاومة ضده بعد استخدامه لسنوات قليلة.
وفي أواخر الخمسينيات من القرن العشرين دفع ظهور مقاومة بعض البكتيريا لعقار “البنسلين ج” بعض الكيميائيين لتركيب بعض “البنسلينات”، واليوم يوجد عدد من “البنسلينات” تمتاز بخاصية أو أكثر من خواص عقار “بنسلين ج”، ومن هذه الأنواع “بنسلين ف” الذي يُمتص في الدم بدرجة كبيرة بعد تناوله بالفم، ومنها أيضا عقارا “الأمبيسلين” و”الأموكسيسلين”، ولهما القدرة على الفتك ببعض البكتريا المقاومة لعقار “بنسلين ج”، والآن يستخدم هذان العقاران لعلاج أمراض الجهاز البولي والجهاز التنفسي والتهابات الحلق والأذن.
توفي ألكسندر فليمنج عام 1955م بعد أن أصبح شخصية بارزة في التاريخ الإنساني، بعد الدور الكبير الذي لعبه عقار “البنسلين” في إنقاذ حياة ملايين الأرواح من البشر. وإن كان بعض المؤرخين يرون أن دور الأطباء الذين نجحوا في تبسيط وسائل استخلاص “البنسلين” لا يقل أهمية عن المكتشف نفسه، إلا أن فليمنج لا يزال متقدما عليهم، فله فضل الاكتشاف، ولولاه لتأخر اكتشاف “البنسلين” عشرات السنين، أو ربما لم يُكتشف أبدا.