الدكتور كليم صديقي Kalim Siddiqui هو أحد أبناء الهند البريطانية، حيث ولد فيها عام 1931 لأحد صغار ملاك الأراضي في المقاطعة التي تعرف الآن باسم أوتار براديش، عرف كليم بنشاطه كطالب في الرابطة المسلمة في إطار حركة باكستان، وفي عام 1948 انتقل إلى كراتشي عاصمة باكستان في ذلك الحين، لكنه كغيره من الشباب المتحمس وجد التجربة التي عاشها في الدولة الوليدة مخيبة لآماله، ومن ثم سافر عام 1954 لدراسة الصحافة في بريطانيا.
Table of Contents
الحياة المهنية لـ كليم صديقي
بدأ كليم حياته المهنية في صحيفة محلية في غرب لندن، ثم ارتقى سلم الصحافة خطوة خطوة حتى وصل إلى محرر فرعي (محرر ديسك بلغة أهل الصحافة) في صحيفة الجارديان عام 1964، كما بدأ يستكمل دراسته، حتى حصل على دكتوراه في العلاقات الدولية من كلية لندن الجامعية عام 1972، مع استمرار عمله الصحفي، حيث سافر للعمل مراسلا لصحيفة الجارديان في باكستان، وجمع مادة رسالته للدكتوراه والتي نشرت عام 1974 بعنوان “وظائف الصراع الدولي: دراسة اجتماعية – اقتصادية لباكستان”، وخلال تلك الفترة بدأت مشكلة ما يعرف بباكستان الشرقية، والتي أدت لنشأة دولة بنجلاديش، والتي أصدر عنها كليم كتابه “الصراع، والأزمة والحرب في باكستان” عام 1972.
كان هذا الصراع وتلك الأزمة والحرب مما شغل بال كليم صديقي، ومن ثم دعا مجموعة من الشباب الباكستاني للدخول في مناقشات مطولة بين عامي 1973 و1974 لتأسيس المؤسسة التي عرفت لاحقا باسم “المعهد الإسلامي”، وبالتوازي كان قد بدأ تدريس العلاقات الدولية في جامعة جنوب كاليفورنيا بألمانيا الغربية، كما استمر في عمله الصحفي.
كليم صديقي ومشروع المعهد الإسلامي
كان مشروع المعهد الإسلامي يركز في فكرته الأولى على باكستان، لكن، وبعد أن حضر كليم مؤتمرا للشباب المسلم كان قد دعا إليه القذافي في ليبيا، والتقى على هامشه بشباب مسلم من جميع أنحاء العالم وناقش معهم أفكاره. ألهمته تجربة المؤتمر أن يؤلف كتابه “نحو مصير جديد” انتقد فيه القذافي ودعا لحرية فكرية جديدة بين المسلمين، كما عاود التفكير في توجه المعهد الإسلامي، ووسع نطاق عمله ليصبح معهدا للبحوث والتخطيط بشأن قضايا العالم الإسلامي برمته وليس باكستان فقط، وهو ما أثمر عن صدور نشرة تأسيس المعهد، والتي ركزت على إرساء الأساس الفكري والعملي لجيل المستقبل لإعادة تأسيس القوة الحضارية للإسلام من خلال سلسلة من الثورات الإسلامية.
وبعد أيام فقط من انتهاء الدكتور كليم صديقي من إعداد النشر التأسيسية للمعهد تعرض لأول أزمة قلبية في حياته، والتي طلب بعدها الأطباء منه التوقف عن جميع أشكال العمل وطلب معاش عجز كامل، لكنه آثر الاستقالة من صحيفة الجارديان وجامعة جنوب كاليفورنيا والتزم بالكامل بالعمل لصالح المعهد الإسلامي. لقد كان مصمماً على عدم إضاعة ما تبقى له من عمر، وهو ما استمر عليه على مدى السنوات الـ 22 التالية والتي تعرض خلالهما لنوبتين قلبيتين أخريين وأجرى عمليتين تحويليتين في شرايين القلب، عامي 1981 و1995.
مارس المعهد نشاطه من خلال عقد الندوات والدورات التعليمية وإصدار الكتب والأوراق البحثية، ومنها دراستين للدكتور كليم لا زالت لهما أهميتهما اليوم، وهما:
– “الحركة الإسلامية، مقاربة منظومية”، الصادرة عام 1976، والتي افترض فيها وجود حركة إسلامية عالمية مكرسة لإعادة تأسيس القوة الحضارية للإسلام، واستكشف جوانب عملها.
– “وما وراء الدولة القومية الإسلامية”، الصادرة عام 1977، والتي انتقد فيها النظام السياسي القائم في العالم الإسلامي والمحاولات الإسلامية لمحاكاة العلوم الاجتماعية الغربية، وخاصة في مجال العلوم السياسية.
وبعد عامين من كتابة ورقته الثانية تلك جاء الحدث الأبرز في زمانه وهو الثورة الإيرانية وعودة الإمام الخميني وتأسيس الجمهورية الإسلامية في إيران. كانت صدمة الدكتور كليم من ردة الفعل السلبية لدى البعض على تلك الثورة، من ثم، وعلى النقيض من ذلك، انغمس الدكتور كليم في دراسة الدولة الجديدة والتي رأى أنها تمثل اختراقا في التاريخ الإسلامي، لكنه أدرك أيضا، كما قال لاحقا، أن هذا الاختراق قد يكون عابرًا، وكان مصممًا على التقاط أكبر قدر ممكن من ضوئه في حالة عدم استمراره. وفي الوقت نفسه، كان يدرك أن الدراسة الأكاديمية للظاهرة الجديدة لم تكن كافية؛ وباعتباره مسلمًا، رأى أن من واجبه مساعدة الدولة الإسلامية الناشئة على النجاة من الضغوط الهائلة التي يمارسها عليها أعداؤها.
ونتيجة لذلك، زار الدكتور كليم إيران عدة مرات لرؤية الثورة وفهمها عن قرب، كما قام المعهد بتنظيم دورة محاضرة في لندن لحامد الجار، مترجم كتابات الخميني إلى اللغة الإنجليزية. كما قام الدكتور كليم وأعضاء آخرون في المعهد بجولة في بريطانيا والولايات المتحدة ودول أخرى، حيث ألقوا خطابات في اجتماعات لشرح الأهمية الحقيقية للأحداث في إيران. ويمكن تتبع فهم الدكتور كليم المتطور للثورة الإسلامية من خلال كتاباته في هذه الفترة والتي تشمل: حالة العالم الإسلامي اليوم (1979) والثورة الإسلامية: الإنجازات والعقبات والأهداف (1980).
كليم صديقي وتجربة إيران الإسلامية
وقد ظل الدكتور كليم صديقًا مقربًا ومؤيدًا لتجربة إيران الإسلامية بقية حياته، وقدم خلال تلك الفترة كتابات أخرى حول التجربة، ومنها كتابه “عمليات الخطأ والانحراف والتصحيح والتقارب في الفكر السياسي الإسلامي (1989)، والذي نال استحسان صديقه السيد علي خامنئي.
في هذه الفترة وبحكم تكوينه الصحفي، طور الدكتور كليم صديقي والمعهد الإسلامي علاقة مع صحيفة “ذا كريسنت” وهي صحيفة إخبارية إسلامية كانت تصدر في تورنتو بكندا منذ عام 1972، والتي كانت تكتب أيضا دعما ودفاعا عن الثورة الإسلامية في إيران، وقد تم ضمها إلى المعهد في أغسطس 1980، وحملت منذ ذلك الوقت اسم “ذا كريسنت إنترناشونال”، والتي ساهم فيها الدكتور كليم بكتابات كثيرة، والتي صدر منها طبعة عربية باسم “الهلال الدولي” في الفترة من 1987 إلى 1991.
وقد شملت جهود المعهد الإسلامي الأخرى تأسيس خدمة نشر الأخبار الإسلامية في الفترة من (1981-1991) وسلسلة مختارات سنوية شعبية بعنوان “قضايا في الحركة الإسلامية”، نُشرت منها 7 أعداد في الفترة من 1982 إلى 1989. وبسبب القيود المالية وغيرها، كان لابد من إغلاق العديد من هذه المنشورات. لكن “ذا كريسنت إنترناشونال” استطاعت البقاء على قيد الحياة.
كما نظم المعهد خلال تلك الفترة أيضا عددا من الندوات والمؤتمرات تناولت قضايا مهمة مثل: الأبعاد السياسية للحج في عام 1982، والدولة والسياسة في الإسلام (1983)، والثورة الإسلامية في إيران (1984)، وأي مستقبل لباكستان؟ (1984)، وتأثير القومية على الأمة (1985)، والفكر السياسي الإسلامي خلال الفترة الاستعمارية (1986)، ومستقبل الحرمين (1988)، الآثار المترتبة على قضية رشدي (1989)، ومستقبل المسلمين في بريطانيا (1990).
كان عام 1989 عاما مفصليا في مسار نشاط الدكتور كليم صديقي، وذلك نتيجة لما أحدثه صدور رواية سلمان رشدي “آيات شيطانية” عام 1988 من ردة فعل غاضبة في الشارع الإسلامي، وهو الغضب الذي لم تخل منه شوارع بريطانيا التي كان سلمان رشدي يقيم فيها. كما كان لصدور فتوى للخميني في فبراير من عام 1989 أثر الزلزال في الشارع المسلم حول العالم، وهو ما أثار غضب الصحافة والإعلام الغربي والبريطاني، وتوجه جزء من هذا الغضب إلى الدكتور كليم صديقي بحكم علاقته ودعمه لإيران.
وكما كانت الأزمات والأحداث الكبرى دافعا له دائما للتفكير العميق والتشاور وإنتاج الأفكار والمؤسسات، فقد دفعته تلك الأزمة إلى أن يوجه تفكيره ورفاقه في المعهد الإسلامي، إلى وضع ورقة فكرية باسم “بيان المسلمين The Muslim Manifesto” والتي صدرت عام 1990.
تحدث كليم في البيان عن المشاكل التي تواجه المسلمين في بريطانيا والواجبات والمسؤوليات التي يتحملها المجتمع المسلم في بلد غير مسلم، وقد كان ذلك البيان بمثابة الوثيقة التأسيسية لمشروعه التالي وهو “البرلمان الإسلامي في بريطانيا العظمى Muslim Parliament of Great Britain“.
تم افتتاح البرلمان الإسلامي بعد عامين من صدور هذا البيان، وتحديدا في 4 يناير من عام 1992، وكما يقول المؤرخ إقبال صديقي كاتب سيرة الدكتور كليم، فإن التوجه المجتمعي للدكتور كليم صديقي لم يكن جديدا عليه، فقد ظهر في كتابه القديم الصادر عام 1973 “نحو مصير جديد Towards a New Destiny”، والذي رآى فيه أن التحدي الذي يواجه المسلمين في البلدان الغربية ذو شقين: تحدي الحفاظ على هويتهم في بيئة معادية، وتحدي المساهمة بشكل كامل في الكفاح العالمي للأمة لإعادة تأسيس الإسلام كقوة حضارية للخير في العالم.
وقد ظهر نفس التوجه مرة أخرى في كتابيه: توليد “السلطة” بدون سياسة (1990) والبرلمان الإسلامي في بريطانيا العظمى – الابتكار السياسي والتكيف، وهو خطابه الافتتاحي في افتتاح البرلمان الإسلامي (1992)، والذي قال فيه إنه من أجل البقاء كمسلمين في هذا البلد، يجب على المجتمع تطوير مؤسساته الخاصة القادرة على تلبية احتياجاته في كل مجال دون الاعتماد على الدولة أو الحكومة البريطانية.
وفور افتتاحه، شرع البرلمان الإسلامي في العمل على إجراء المزيد من الأبحاث حول أوضاع واحتياجات المسلمين في بريطانيا، وأنشأ مشاريع لتحسين أوضاعهم في المجالات المهمة التي شملت التعليم، والفقر، والبطالة، والتمييز ضد المسلمين، وحالة مساجد المجتمع، وتجارة اللحوم الحلال.
ففي عام 1993، أنشأ البرلمان الإسلامي مؤسسة خيرية مسجلة، بيت المال الإسلامي، لتمويل وإدارة أجزاء من عمله التي تعتبر خيرية بموجب القانون البريطاني وذلك لرعاية الأسر المحرومة التي تعاني من صعوبات، ومساعدة الطلاب من خلفيات فقيرة.
كان التعليم هو المجال الرئيسي الآخر لعمل البرلمان، حيث أكد الدكتور كليم أن التعليم هو السبيل الوحيد لكسر دائرة الفقر والحرمان الاجتماعي التي أبقت المسلمين البريطانيين فقراء واستغلالهم في أسفل السلم الاجتماعي والاقتصادي في بريطانيا. وبينما ركز النقاش التعليمي بين المسلمين في هذا البلد على الحصول على تمويل حكومي لعدد قليل من المدارس الإسلامية، رأى البرلمان الإسلامي أن الحاجة الفورية للمسلمين هي إنشاء مرافق تعليمية تكميلية لمساعدة الأطفال المسلمين في المدارس الحكومية.
المؤسسة الرئيسية الثالثة لشبكة البرلمان الإسلامي هي هيئة الأغذية الحلال، التي تأسست عام 1994 لمراقبة وتنظيم تجارة اللحوم الحلال في بريطانيا، والتي كانت لسوء الحظ احتيالية إلى حد كبير.
في ذلك الوقت، رأي بعض المسلمين أن البرلمان الإسلامي يجب أن يركز على القضايا المحلية وألا يتخذ موقفا قويا بشأن القضايا الدولية من شأنه أن يزيد من صعوبة العمل في بريطانيا، لكن الدكتور كليم لم يقبل هذا الموقف أبدًا، قائلاً إن المسلمين في بريطانيا لديهم مسؤولية تجاه العالم الإسلامي العالمي، ومن ثم عمل البرلمان على دعم البوسنة، وذلك من خلال لجنة حقوق الإنسان التابعة له، وقد ساهم المؤتمر العالمي للبرلمان الإسلامي حول البوسنة والحركة الإسلامية العالمية (نوفمبر 1993) بشكل كبير في فهم الأحداث هناك.
في النهاية، تبقى أعظم إسهامات الراحل الدكتور كليم صديقي هي في دوره كناشط سياسي ومعلق ومحلل ومفكر خلال فترة حاسمة من تاريخ الأمة الإسلامية. ومن خلال قوة شخصيته، ودوافعه وطاقته، وخطبه وكتاباته، ألهم وساهم في تنوير عدة أجيال من الشباب المسلمين والناشطين الإسلاميين في جميع أنحاء العالم بين أوائل السبعينيات وحتى وفاته في عام 1996. وكانت مصطلحات الأمة، والدولة القومية، والحركة الإسلامية، والثورة، محورا لمشروعه الفكري، ومحورا لعمل المؤسسات التي أنشأها: المعهد والصحيفة والبرلمان.
وعلى الرغم من كل إسهاماته لم يحظ ما قدمه بدراسة أكاديمية عربية لثنائية الفكر والحركة عنده، وإلى أي حد نجح أو أخفق، أو أصاب أو أخطأ، أو إلى أي حد يمكن لإسهاماته الفكرية وأفكاره التي وضعها في مؤسساته أن تبقى صالحة لزماننا، والذي ربما لو عاش حتى وصل إليه، لرأينا “المقاومة” محورا خامسا لكتاباته ومؤسساته، ولرأى فيها بصيصا من الأمل يبشر بغد أفضل تتحقق فيه ما تاقت إليه نفسه، وعاش من أجله.