هو عبد الله بن محمد بن حجاج الأرديني المعروف بابن الياسمين، عالم الرياضيات والهندسة والهيئة والمنطق بالإضافة إلى تفوقه في الأدب العالي شعرا ونثرا… أصله من بني حجاج أهل قلعة فندلاوة.. كذا عرف به صاحب “الذخيرة السنية” ابن أبي زرع الفاسي وحلاه بالفقيه الحاسب.. وبه يعلم أن وصف ابن سعيد المغربي له في كتاب “الغصون اليانعة” بالاشبيلي إنما هو جري على عادتهم من اعتبار الشخص الذي أقام مدة ما بقُطر ما، من أهل ذلك القطر.. لا ندري بالضبط متى ولد ابن الياسمين، لكننا نعرف أنه توفي مقتولا بمراكش عام 601هـ/1204م، وقيل أواخر 600هـ. وسنة 601هـ هي السنة نفسها التي توفي فيها أبو العباس السبتي، أحد رجالات مراكش السبعة..
والياسمين اسم أمه نسب إليها وكانت سوداء، وكان هو أيضا أسود.. وإلى هذا يشير أبو الحجاج ابن نموي أحد كبار علماء فاس في أبيات أتبثها أبو الوليد الشقندي في “معجمه”، ونقلها ابن سعيد المغربي في “الغصون اليانعة“:
أيهــا اللابسُ لــون الليـــلِ ثوبا حين أظلم
والــذي يُضمـــر داءً منه يوما ما تألّم
أنت مـن أقبـــحِ خلـقِ الله ما لم تتكلّم
بشــــذور بــــاهـراتٍ ساحرات لو تُجَسِّم
أصبحت في كــل جِيـد حسنٍ عِقدًا منَظَّم
ولا يخفى من قول ابن نموي أنه يضع صاحبنا ابن الياسمين في مكانة علمية وأدبية مرموقة ولو لم تعجبه صورته، لكن ابن الياسمين رد عليه بقوله:
أيها الفاسي أتى ريحــك قبل النجو يَفغم
في قريضٍ حسنِ الصورة بالهجو مُجذَم
فقبلنــاه وقــد جــاء لنا بالمدح مُعلَم
نعرف أيضا أن عبد الله بن الياسمين عاش في مدينة فاس، وأنه كان من المقربين من يعقوب المنصور الموحدي، ثم من ولده الناصر من بعده، وقد نال منزلة كبيرة في عهدهما..
وقال ابن سعيد في “الغصون اليانعة”: “تخرج باشبيلية في فنون العلم، وكان أول تعلقه بالفقه والتوثيق، حتى صار من أعلام العارفين بالوثيقة، ثم اشتغل بالنظم والنثر وفنون الآداب.. وحلاه بقوله “الجليس المتفنن الكاتب“..
أفاض ابن سعيد في الحديث عن البراعة الأدبية لصاحبنا ابن الياسمين، لكنه لم يشر إلى تفوقه في علم الرياضات.. تم أشار إلى وفاة ابن الياسمين ذبيحا بداره بمراكش والكيفية البشعة التي وجد عليها بمثل الحال التي وجد عليها الفتح بن خاقان صاحب “قلائد العقيان“..
ثم قال ابن سعيد في “الغصون اليانعة”: “وله موشحات يغنى بها، وأمداح في المنصور والناصر.. وأمثل ما وقع لي من ذلك قول ابن الياسمين من قصيدة منصورية يذكر فيها قطع المنصور الاشتغال بكتب الفروع والاقتصار على ما ثبت من الأحاديث النبوية:
أسيّدنــا قــد ورَدتم بنــا مواردَ كنا عليها لُحوم
نبذتـم مقالــة هذا وذا فزال المِراء وقلَّ الخُصوم
وأثبتم قول من لفظُــه هــو الحقُّ والشرع منه يقوم
فلازلتم لكمالِ الهدى وإحْياءِ دارِس درسِ العلوم
ولا يخفى ما لهذا النوع من الشعر من إفادات على مستوى التأريخ والاجتماع والمميزات الثقافية لعصر ما، وهذه الأبيات تؤرخ هنا لحدث ثقافي بالغ الأهمية في تاريخ الدولة الموحدية، وهو قرار الملك يعقوب المنصور التخلي عن كتب الفروع والاقتصار على الأصلين.. وبغض النظر عن تداعيات ونتائج هذا القرار؛ فإن اتخاذ هذا الموقف يعكس موقفا فكريا وسياسيا خصوصا إذا استحضرنا تضخم فقه الفروع وسلطة الفقهاء خلال العصر المرابطي…
بقيت الناحية العلمية من ترجمته، وهي التي قامت على شهرته بالبراعة في علم الحساب والجبر، وهو لذلك يعد من ألمع علماء العرب شهرة في الرياضيات.. وبما أن صاحبنا ابن الياسمين كان شاعرا، فقد دفعه ولعه بالجبر إلى إبداع تعريف مفهومي الجبر والمقابلة بأرجوزة قرئت عليه بأشبيلية عام 587هـ. وقد اعتبرها مؤرخو الرياضيات العمل الأساسي في دراسة الجبر، ففيها خلاصة الكثير من المبادئ والقوانين والطرق التي تستعمل في الحساب وحل المسائل والمعادلات الجبرية.
يقول العلامة عبد الله كنون في مقاله عن “ابن الياسمين” (مجلة البحث العلمي، العدد 1، 1964) عن أرجوزة ابن الياسمين: “وهي تبدأ بمقدمة في العدد الصحيح وأبواب في الجمع والطرح والضرب والقسمة، وحل العدد إلى أصوله. ثم مقدمة في الكسور وأبواب في الجبر أي جبر الكسور والحط، وهو عكس جبر الكسور والصرف وطرق استخدام المجهولات.. وأخيرا ينتقل إلى علم الجبر والمقابلة وهو أهم أبواب الأرجوزة وأَنفسها.. وفي هذه الأرجوزة توجد خلاصة كثير من القوانين والمعادلات الجبرية التي تتضمنها كتب الجبر الحديثة، وهي تدل على تضلع الناظم في الجبر وبعد غوره فيه، كما تدل على أن ثروته الأدبية لا يستهان بها، فلولا إحاطته بالجبر والشعر إحاطة كلية لما استطاع أن يضعها في قالب جذاب.. وقد أثنى على هذا الكتاب وأبرز أهميته العلمية الأستاذ قدري طوقان في كتابه “تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك“…
وتدل هذه الأرجوزة الفريدة على تمكن ابن الياسمين وثروته الأدبية والعلمية، وقد شاعت بين القراء لسهولتها ودقة عباراتها، وقد عدها مؤرخو العلوم والعلماء الرياضيون العرب والغربيون من الكتب الأصول في الرياضيات…
قال ابن أبي زرع الفاسي في “الذخيرة السنية” (طبعة دار المنصور، 1972): “أن ابن الياسمين أخذ عن أبي عبد الله بن قاسم علم الحساب والعدد”. ونستشف من أرجوزة ابن الياسمين تقديره الكبير لأستاذه وعمدته في علم الحساب محمد بن قاسم، وذلك في قوله:
والشكر للحِبر الزّكي العالــمِ أستاذِنا محمدُ بنُ قاسِمِ
فهو الذي أوضحَ ما قد أشْكلا وقرّب القاصي حتّى سَهُلا
ومن الذين شرحوا أرجوزة ابن الياسمين في الجبر والمقابلة العلامة ابن قنفذ (740-810هـ)، والعلامة ابن الهائم (753-815 هـ) في كتابه “شرح الأرجوزة الياسمينية”. وشرح أرجوزة ابن الياسمين كذلك العلامة سبط المارديني (826-912ه)، وسمى شرحه “اللمعة الماردينية في شرح التحفة الياسمينية“..
ومما جاء في أرجوزة ابن الياسمين:
على ثلاثة يدور الجبرُ المالُ والأعدادُ ثم الجِذر
وواضح أنها المصطلحات التي كان يستخدمها المسلمون قديما في الجبر.. ويشرح “ابن الياسمين” معنى الجبر والمقابلة في أرجوزته، فيقول أن الجبر هو نقل الحدود من طرف إلى طرف، بينما المقابلة هي جمع الحدود المتشابهة، ونحن نجمع الحدود المتشابهة في المعادلة من أجل تبسيطها.
وقد كتب في أرجوزته:
وبعد ما تجبر فلتقابل بطرح ما نظيرُه يماثِل
ومن هذه الأرجوزة أيضا قول ابن الياسمين:
فالمــال كــل عدد مربــع وجذره واحد تلك الأضلع
والعدد المطلق ما لم ينسب للمال والجذر فافهم تصب
والشيء والجذر بمعنى واحد كالقول في لفظ الأب والابن
ولابن الياسمين أيضا كتاب “تلقيح الأفكار في العمل برسوم الغبار”، وهو كتاب له أهمية علمية وتاريخية كبيرة.. أما أهميته العلمية، فتظهر من محتوياته، وقد جعله على خمسة أبواب تتضمن أربعين فصلا: فالباب الأول في العدد الصحيح وما يتعلق به، وينقسم إلى خمسة فصول وهي: ضرب الأعداد بعضها في بعض، وقسمة الأعداد بعضها على بعض، وتسمية الأعداد بعضها من بعض، وجمع الأعداد بعضها إلى بعض، وطرح الأعداد بعضها من بعض…؛ والباب الثاني في الكسور وما يتعلق بها وينقسم إلى أحد عشر فصلا وهي: ضرب الكسور المتصلة وأخذ بسطها، وضرب الكسور المنفصلة، وضرب الكسور المبعضة على اختلافها، وجمع الكسور بعضها إلى بعض، وطرح الكسور بعضها من بعض، وصرف الكسور من اسم إلى اسم، وقسمة الكسور بعضها على بعض، ومعرفة تسمية الكسور بعضها من بعض، ومعرفة تركيب الكسور، وجبر الكسور؛ والباب الثالث في فوائد لا يستغنى عنها فيما تقدم من المسائل، وينقسم إلى أربعة فصول وهي: في معرفة الطروحات التي يستدل بها على الصواب من الخطأ، ومعرفة ما للعدد من المقامات في القسمة وغيرها، والأجزاء التي لا تنقسم، وحكم التكرار من الآلاف؛ والباب الرابع في استخراج الأحوال المجهولة وينقسم إلى أحد عشر فصلا وهي: جمع الأحوال لمجرد الكسور، وجمع الأموال بزيادة الدراهم، وجمع الأموال باستثناء دراهم من كسورها، وجمع الأموال باستثناء دراهم من كسرها وزيادة دراهم في كسر آخر، وجمع الأموال بلا مثيل، والأموال المختلفة، وطرح الأموال، وضرب الأموال، وجمع الأموال، وأنواع شتى من الأموال، وامتحان الأموال؛ والباب الخامس والأخير في أشياء يحتاج إليها في الجبر والمقابلة وينقسم إلى تسعة فصول وهي: المسائل الستة التي يحتاج إليها في الجبر، وأخذ الجذور، وضرب الأجذار بعضها في بعض، وقسمة الأجذار بعضها على بعض وتسميتها، وجمع الأجذار بعضها إلى بعض، وطرح الأجذار بعضها من بعض، وضرب كسور الأجذار، ومسائل من المساحة مقربة إن شاء الله..
ويعلق العلامة سيدي عبد الله كنون في مقاله السابق الذكر على كتاب “تلقيح الأفكار” بقوله: “والدارس لفصول الكتاب لابد أن يقف على دلائل كثيرة تعرفه بعبقرية صاحبنا في هذا الفن وتظهره منه على ذهنية رياضية قلما توفرت إلا للأفذاذ من العلماء وعلى حسب ما يظهر فإن هذا الكتاب جمعه من مذكراته التي كان يلقيها دروسا على الطلبة؛ فإنه يقول في مقدمته: “كنت في مقدمة تعلمي الحساب أتبث مسألة من كل نوع من أنواعه مخافة اختلاله في حين إهماله.. فأكثر جماعة من الإخوان البحث عنها ورغبوا في انتساخ ما تحصل منها.. فدفعت إليهم ما كان عندي، فلم يعد منها شيء إلي.. وكان من جملة من رغب فيها أخوا صدق، وصديقا حق، فقدر الله عز وجل إهمالها قبل أخذهما لها.. فلم أزل أماطلهما وأسوف، وأعدهما وأخلف، وكل ذلك لا ينقض عهدهما، ولا يحيل ودهما، إلى أن فتح الله العليم في وجوه بعض مسائل منها عند بعض إخواني، فحمدت الله عز وجل على ذلك كثيرا، وصرفت الهمة إلى جمعها، وأضفت مالا غنى عن معرفته منها مثل جمع الأموال وطرحها وضربها، وامتحانها واختلاف أعمالها لاختلاف معانيها، وما يستحيل منها وبعض ما يتصرف فيها من وجوه الأعمال مثل الجبر والقياس ومثل المكعبات…”.
أما أهمية كتاب “تلقيح الأفكار” فتكمن في إشارة ابن الياسمين إلى أصل الأرقام المعروفة بالغبار ووجه تسميتها بذلك وإنها- وهذه مسألة بالغة الأهمية – لها شكلان، شكل هو هذا المستعمل بالمغرب، وشكل هو المعروف بالأرقام الهندية، وهذه هي عبارته في ذلك أثناء المقدمة: “واعلم أن الرسوم التي وضعت للعدد تسعة أشكال يتركب عليها جميع العدد، وهي التي تسمى أشكال الغبار وهي هذه (وهنا رسم أرقام الحساب كما نرسمها نحن في المغرب من واحد إلى تسعة 1،2،3…)، وقد تكون أيضا هكذا (وهنا رسمها بالشكل المعروف بالهندي ١،٢،٣…) ثم قال: ولكن الناس عندنا على الوضع الأول، ولو اصطلحت مع نفسك على تبديلها أو عكسها لجاز، ووجه العمل على حاله لا يتبدل، وقد صنعها قوم من جواهر الأرض مثل الحديد والنحاس من كل شيء منها أعداد كثيرة ويضرب بها ما شاء من غير نقش ولا محو.. وأما أهل الهند فإنهم يتخذون لوحا أسود يمدون عليه الغبار وينقشون فيه ما شاءوا.. لذلك يسمى حساب الغبار، وعلى الحقيقة ليس إلا المداد والمحو“..
إن هذا البيان الذي تفضل به صاحبنا ابن الياسمين يعتبر ذا قيمة تاريخية كبرى، ذلك أنه يؤكد الأصل المشترك للأرقام المستعملة في البلاد العربية.. ويعلق عبد الله كنون في مقاله (ص: 189) على قول ابن الياسمين: “ولو اصطلحت مع نفسك على تبديلها أو عكسها لجاز” بقوله: “وهذا واقع، فإننا نجدهما في بعض المخطوطات مما يقرب من عصر المؤلف (القرن السادس) يتقارضان، كما أنها تثبت اشتراكهما معا في التسمية بحروف الغبار أو رسومه جريا على اصطلاح المؤلف. وقد كان هذا بحسب الأصل وإن كان هذا الاسم فيما بعد كاد يختص بالأرقام المستعملة في المغرب، في حين أن الأرقام المستعملة في الشرق اشتهرت بالأرقام الهندية، والهنود هم الذين كانوا يتخذون طريقة الرقم على الغبار في الأعمال الحسابية، فأطلق على هذه الأرقام بملاحظة تلك الطريقة اسم الغبار والغبارى والغبارية… يبقى أن أرقامنا المغربية التي اشتهرت أيضا بالأرقام العربية عند الغربيين إنما جاءها هذا الاسم من اقتباس الغربيين لها عن طريق المغرب بواسطة البابا سلفستري الثاني أو غيره… وإلا فالشكلان معا غباريان بمعنى أنهما كانا يستعملان في الأعمال الحسابية على الطريقة الهندية، وكانا مستعملين أيضا عند أجدادنا العرب في المشرق والمغرب“..
توفي ابن الياسمين مقتولا بداره بمراكش سنة 601هـ، وقيل آخر سنة 600هـ، وعلى الأول اقتصر صاحب “الذخيرة السنية”، وابن سعيد في”الغصون اليانعة”.. رحمه الله ونفعنا بعلمه.