الاقتصادي جوسيب ستغليز و«الشرخ الكبير»: التفاوت الأمريكي كوسيلة لفهم التفاوت في المجتمعات العربية
«الشرخ الكبير: ما الذي يجب فعله بشأن تفاوت المجتمعات؟»، هو عنوان كتاب المفكر الاقتصادي صاحب جائزة نوبل في الاقتصاد سنة 2001 جوسيب ستغليز، الذي يحاول رصد الفوارق والتفاوت بين المجتمعات وبين الأفراد. ويركز الكتاب كثيرا على المجتمع الأمريكي. وإن كان لا يهدف إلى ذلك بحكم تاريخ صدوره السنة الماضية، فهو يسعف كثيرا في معرفة لماذا تراهن الطبقة المتوسطة والمهمشون من البيض الآن على المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية الأمريكية دونالد ترامب الذي تعتبره منقذها من هيمنة الشركات الكبرى والسياسيين الفاسدين. في الوقت ذاته، الكتاب يسعف كثيرا عبر تصوراته وآليات التحليل، لفهم التفاوت في العالم العربي رغم أنه لا يعالج هذه المنطقة.
الكتاب صدر السنة الماضية في الولايات المتحدة، وجرى ترجمته إلى الكثير من اللغات ومنها الإسبانية (النسخة المعتمدة في هذا التلخيص) باستثناء اللغة العربية، حيث تغيب مشاريع هامة لالتقاط الكتب الجديدة والعمل على ترجمتها ونشرها وسط الباحثين والطلاب العرب. وأهمية الكتاب تتجلى في موضوعه المتزامن مع الأزمات الاقتصادية التي يعيشها العالم على مستويين، الداخلي بين الطبقات والعالمي بين الدول، حيث الفوارق أو الشرخ الكبير، ووفق العنوان الشرخ يتفاقم ويتفاقم.
بينما الأهمية الثانية تتجلى في مؤلفه جوسيب ستغليز الأستاذ في جامعة كولومبيا الأمريكية يجمع بين البحث الأكاديمي المتميز وبين النضال السياسي ضد النظام وخلل الاقتصاد العالمي والمتحكمين، حيث يقوم بمحاضرات توعوية ويقدم المشورة للكثير من الأحزاب التقدمية المناهضة للاقتصاد المتوحش في الغرب مثل حزب بوديموس في اسبانيا وسيريزا في اليونان ضمن أخرى. وكانت مقالاته الأرضية التي قامت عليها حركة «احتلو والت ستريت» الأمريكية إبان الربيع العربي. ومن مقالاته الرئيسية في هذا الكتاب وكانت وراء هذه الحركة طرحه بأن هناك 1٪ من النافذين يتحكمون في الاقتصاد بينما بينما 99٪ من الناس تتفرج دون مشاركة. كما يعتبر من المفكرين الذين أغنوا المكتبة الاقتصادية بكتب هامة خلال العشرين سنة الأخيرة مثل «الاستياء من العولمة» و»ثمن التفاوت».
في الوقت ذاته، أهمية الكتاب تتمثل في الإجماع الذي تحققه أطروحاته، ونجد بول كروغمان يكتب في «نيويورك تايمز» وهو الاقتصادي التقدمي «وفق ما جرى في ديترويت واليونان (التدهور الاقتصادي المريع)، الطرح الاقتصادي الليبرالي الحديث أظهر محدوديته كثيرا، وجوسيب ستغليز يبرهن على هذا في كتاب الشرخ الكبير». وتعتبر مأساة اليونان وما عانته ديترويت من عناوين فشل الرأسمالية ومدى محدودية مساعدة الغرب لبعض مكوناته في الأزمة. ومن جانبه، يكتب بريان ويسبوري في الجريدة التي تعتبر مرجع الاقتصاد الليبرالي «والت ستريت جورنال» في تعليقه على الكتاب «ستغليز يعمل طويلا في هذا الاتجاه، وتحليلاته وتكهناته تأخذ طابع الاستعجال في هذه الفترة التي نعيش فيها التفاوت المريع».
وفهرس الكتاب مكون من عناوين كثيرة، وهذا مرده إلى أن معظم المواد هي محاضرات للكاتب خلال السنوات الأخيرة، حيث رصد وقام بطريقة غير مباشرة للتأريخ للأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم ابتداء من سنة 2007 في الولايات المتحدة قبل انتقالها إلى باقي أنحاء العالم. ولهذا، يعالج في التمهيد وتحت عنوان فرعي «من دّمر الاقتصاد الأمريكي؟».
وينطلق هذا المفكر من أطروحة الأصولية في الاقتصاد الحر، وهي تلك الشركات والمسيرون والسياسيون والبنوك والمؤسسات الدولية الذين يؤمنون بحرية السوق بشكل مطلق إلى مستوى مقارنتهم بالأصوليات الدينية والفكرية بسبب فرضهم سياسة التقشف على الباقي من حكومات وشعوب، محملا إياهم تدمير اقتصاد العالم والتسبب في الأزمة العالمية خلال السنوات الماضية والمستمرة حتى الآن، وتجعل الأغلبية الكبيرة 99٪ تؤدي هذه الخسائر رغم عدم استفادتها.
ورغم الاختلاف، فهو يرى أن همينة الولايات المتحدة وفكرها الاقتصادي الليبرالي عبر المؤسسات يجعل ما يحصل في هذا البلد ينتقل إلى بلدان أخرى، ومن ضمن الأمثلة أن الغنى والثروة في البلاد تتجه نحو الأعلى، أي استفادة تلك الطبقة المحدودة عدديا من خيرات البلاد ومزيد من الفقر للباقي، وهو الأمر نفسه الذي نجده في باقي الدول ومنها دول العالم العربي مثل السعودية والمغرب والجزائر ومصر، حيث كتابات مفكرين اقتصاديين تذهب نحو الطرح نفسه. وفي الفصل السابع من الكتاب بعنوان «آفاق إقليمية» يعالج ما تشهده الولايات المتحدة في دول أخرى مثل الوضع المتفجر في الصين من تفاوتات والأزمة في اسبانيا.
ويرى ستغليز أن التفاوت هو الذي أدى إلى الأزمة الاقتصادية التي تعرضت لها الولايات المتحدة والعالم، وهذه الأزمة فاقمت من التفاوت وسط المجتمع الأمريكي وباقي المجتمعات الأخرى وخاصة الغربية منها التي تأثرت بالأزمة مثل اليونان وإيطاليا وإيرلندا. ويضع أصبعه على الداء من خلال تأكيده أن التفاوت ليس نتيجة طبيعية لقوانين الاقتصاد بل نتيجة السياسات المتبعة ونوعية التشريع السياسي في مجال الاقتصاد.
وارتباطا بهذا، يربط التفاوت بتدهور الديمقراطية في الولايات المتحدة وبآفات المال، وفي الفصل الأول بعنوان «أفكار كبرى» وبالضبط في العنوان الفرعي «الديمقراطية في القرن الواحد والعشرين» يركز على كيفية تأثير الشركات الكبرى على المرشحين للبيت الأبيض، في عملية شراء رؤساء بطريقة غير مباشرة من خلال تمويل الحملات الانتخابية، وكيف أن الغالبية الكبرى من النواب في الكونغرس تفوق ثروته كل واحد منهم ملايين الدولارات، لتصبح ديمقراطية الأثرياء ومليونيرات وليس عامة الشعب. وهنا تصبح الطبقة السياسة النافذة تشرع لصالح تلك الفئة التي تشكل 1٪ من المنتفعين من الاقتصاد وضد 99٪ الباقي. ومن العناوين المثيرة هو ما يعتبره «الاشتراكية للأغنياء في الولايات المتحدة»، حيث يسخر من الاشتراكية التي تبنتها الدولة في مساعدة الأبناك لمنعها من الانهيار بينما تحرم ملايين الأمريكيين من المساعدة.
ولا يكتفي ستغليز بالوصف والنقد من زاوية التشاؤم، فهذا الباحث يقدم وصفة في الصفحات الطويلة للكتاب وخاصة في الفصل الثامن وكيف يحث الولايات المتحدة على النهوض من كبوتها الاقتصادية، وتتعلق بكيفية الخروج من مأزق التفاوت، في هذا الصدد، مشيرا إلى ضرورة آليات ضبط السوق في الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة بعيدا عن هيمنة السياسيين المرتبطين بالشركات. في الوقت ذاته، يركز كثيرا على إصلاح الحملات الانتخابية حتى لا يبقى المرشح الذي يصل إلى البيت الأبيض رهينة ما تلقاه من تبرعات من الشركات تنعكس سلبا على مصالح الشعب. ويركز كذلك على إصلاح النظام الضرائبي حتى لا يتحمل الشعب نتائج الأزمات التي يتسبب فيها 1٪ من النافذين في السياسة والمال.
وكعدو رئيسي لسياسة التقشف التي تفرضها الكثير من الحكومات في العالم إبان اندلاع الأزمات، يعود ستغليز إلى الطرح الكلاسيكي في الاقتصاد وهو تجديد وتطوير البنيات التحتية كأرضية لانطلاق الاقتصاد من جديد، والرفع من مستوى التعليم والرفع من ميزانيات البحث العلمي لخلق مناصب شغل في قطاعات جديدة.
ولهذا، لا يقف عند الرؤية التقنية في الاقتصاد التي تربط الأزمات بتراجع الطلب أو المنافسات الخارجية لدول جديدة تدخل معترك الاقتصاد العالمي وتجلب استثمارات بما فيها انتقال شركات لدول أخرى بسبب التكلفة الضعيفة لليد العاملة ووجود مواد أولية، بل يرى في السياسة المفتاح. ويكتب في هذا الصدد «السياسة كانت وراء مشاكلنا الحالية، وبالتالي ففي السياسة سنجد الحلول الني نرغب فيها، والسوق لن يقدم لنا حلولا لوحده».
وكما أشرنا في البدء، التحليل الذي يقدمه جوسيب ستغليز في الاقتصاد ووضع حد لهيمنة الشركات على السياسة هو الذي اعتمده كل من المرشح الديمقراطي الذي خسر الانتخابات التمهيدية بيرني ساندرز والمرشح الجمهوري دونالد ترامب مع فارق في الطرح. وذلك، بين طرح رزين للأول وفي قالب شعبوي للثاني. لكن هذه الأطروحات هي التي جلبت الطبقة المتوسطة وخاصة البيضاء إلى التصويت على الاثنين مع حظوظ للثاني للوصول إلى البيت الأبيض، وعليه، فكتاب ستغليز هام للغاية لفهم نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة.
وبحكم نهج العالم العربي سياسة ليبرالية متوحشة في بعض البلدان مثل تونس والمغرب ومصر مع السياسة نفسها لكن بالتوازي مع المساعدات الاجتماعية في دول مثل السعودية وقطر والإمارات العربية، فالكثير من تحاليل الكتاب تنطبق على العالم العربي. ويكفي أن العالم العربي من المناطق التي تشهد أزمات وتفاوتا خطيرا بين طبقة سياسية مسيطرة على الاقتصاد وعامة الشعب التي تعيش عناوين الحرمان في التعليم والصحة والشغل.
القدس العربي