المجلةبنك المعلومات

التحكم في السلالة البشرية

 

التحكم في السلالة البشرية:

فجأة، ومع صعود الحركات القومية المتطرفة في أوروبا، والتطور غير المسبوق في الهندسة الوراثية مؤخرا، وأبحاث “الجينوم” البشري، عاد علم “اليوجينا” السلالة البشرية العنصري القديم ليطل بوجهه القبيح على العالم مرة أخرى!

فبعد قرون طويلة من اختفائها عادت “اليوجينيا” لتصم علم الوراثة السلالة البشرية بوصمة عار جديدة، فظهرت في فرنسا وبريطانيا وألمانيا جماعات كانت تعيش في الظلام، تدعو السلالة البشرية إلى استخدام “اليوجينيا” لفرز البشر ودعم تفوق الجنس الأبيض وحمايته من الأزمة الاقتصادية العالمية.

و “اليوجينيا” لمن لا يعرفها هي علم “التحكم في السلالة البشرية” لضبط معدلات الولادة و “تحسين” صفات البشر عن طريق ولادة الصالحين بيولوجيا فقط، بتشجيع الزواج المبكر لما يسمى “الأعراق الممتازة” فحسب، وحرمان غير الصالحين من الخروج إلى الحياة، وهو بذلك علم عنصري بكل المقاييس، عرفه العالم لأول مرة كعلم عام 1869 م على يد عالم بريطاني متعصب للجنس الأبيض يدعى “فرانسيس جالتون” كان يقول إن “كلاب أفريقيا تكف عن النباح إذا ما تنفست هواءنا” !

ويعرف بعض العلماء “اليوجينيا” الإيجابية بأنها دراسة العوامل الخاضعة للتحكم الاجتماعي بهدف تحسين الخصائص الطبيعية الموروثة للأجيال في المستقبل جسديا وذهنيا، وذلك على عكس “اليوجينيا” السلبية وهي الحد من تناسل من لا يستحقون الحياة، حسب رؤية عنصري لا إنسانية ساخرة، ويدخل في عداد هؤلاء المتخلفين ذهنيا أو أصحاب الأمراض الخطيرة وسواهم.

ولكن “اليوجينيا” حسب النظرة التحكم في السلالة البشرية كلها شر، فمن الذي يعطي لهذا العالم أو ذاك حق “تقويم” البشر، وإعطاء تصريح  بالحياة لمن يرى أنه الأفضل عرقا أو عقلا، وحرمان آخرين من فرصة الحياة لمجرد أنهم ولدوا ببشرة سمراء أو أقل صحة وذكاء من غيرهم ؟!

التحكم في السلالة البشرية:

 

جمهورية الأذكياء فقط!

أول “اليوجينيين” في التاريخ هو الفيلسوف اليوناني الشهير “أفلاطون” الذي يعد أول داعية “لليوجينيا”, إن كانت مجرد أفكار غير مدعومة بعلم البيولوجيا لتصبح علما، ففي “جمهورية أفلاطون” الخيالية كان الفلاسفة وأصحاب الفكر يتمتعون بالصحة والعافية والمكانة، فيما كان غيرهم من العامة محدودي الذكاء يشغلون المراتب الدنيا من السلم الاجتماعي، فهي جمهورية متخيلة يحكمها الأذكياء فقط، وعلى هؤلاء أن يديروا أمور الحكم بحيث يتم تزويج “الأقوياء” وأصحاب القدرة العقلية والشجعان في الحروب مبكرا، ومنع المرضى وذوي العاهات من التزاوج نهائيا!

ورغم أن أفكار افلاطون كانت مجرد تهويمات فلسفية، الهدف منها هو رسم خارطة المجتمع المثالي من وجهة نظره، إلا أن هذه الأفكار ألهمت العديد من العلماء والمفكرين والأدباء في أوروبا فيما بعد، وفي عام 1869 م أصدر السير “رانسيس جالتون” كتابا بعنوان “العبقرية الوراثية” تناول فيه سير المشاهير من العباقرة على مر العصور، ورسم “جالتون” تصورا نظريا، مفاده أن العبقرية تظهر مرة بعد مرة في العائلة نفسها، ما يعني أنها قدرة عقلية موروثة وليست مكتسبة، وهكذا كان “جالتون” هو أول ممن قدم تعريفا واضحا لعلم الوراثة.

ويقول الدكتور “مجدي زعبل” الأستاذ بكلية الطب جامعة عين شمس بالقاهرة، التحكم في السلالة البشريةإن “اليوجينيا” تعتمد على استبدال الانتخاب الطبيعي من الكائنات الحية عامة والبشر خاصة، بانتخاب صناعي موجه لخدمة أهداف اجتماعية أو سياسية معينة، وهي بذلك تصطدم اصطداما مروعا بالمبادئ الأخلاقية والاعتبارات الإنسانية، وهو السبب الأساسي لاختفائها من خارطة العلوم البشرية وظهورها بقوة أو على استحياء بين آن وآخر، على يدي المتطرفين القوميين في الغرب.

نهر الجنون

لاقت نظريات “اليوجينيا” هوى في نفس الزعيم الألماني الأشهر “أدولف هتلر” الذي تأثر بأفكار العالم البريطاني “فرانسيس جالتون” والفيلسوف الألماني “فريدريك نيتشه” صاحب خرافة “الإنسان السوبرمان” وكانت نظرية هتلر النازية تعتبر الجنس الآري أرقى أجناس البشر على الإطلاق، وينبغي أن تكون له السيادة على العالم، وأصدر الزعيم النازي أوامره بإجراء عمليات جراحية لإخصاء نحو 400 ألف شخص من اليهود وضعاف العقول والمرضى المزمنين الذي اعتبرهم  هتلر “أحقر شأنا من أن يمرروا جيناتهم إلى الجيل التالي”، وهي العملية التي وصمت “اليوجينيا” بالعار إلى الأبد.

ومن الغريب أنه رغم السمعة السيئة لعلم “اليوجينيا” إلا أن مفكرين وأدباء وساسة ذوي نزعة إنسانية تعاطفوا معه، وكان من هؤلاء “برتدراند راسل” و” برنارد شو” و “هـ . ج . ويلز” و “ألدوس هيكسلي” و “تشرشل” و “روزفلت” وغيرهم.

وفي عام 1992 م نشرت – لأول مرة –  الأوراق الشخصية للزعيم البريطاني “ونستون تشرشل”، وهو أحد أكثر الزعماء الأوربيين احتراما وشعبية في القرن العشرين، وأصيب الرأي العام العالمي بالصدمة عندما قرأ في مفكرة “تشرشل” الشخصية هذه العبارة، التي كتبها عام 1910 عندما كان وزيرا لداخلية بريطانيا العظمى، قال “تشرشل” : “إن النمو الشاذ المتزايد السرعة لطبقات ضعاف العقول والمتخلفين، والذي يصاحبه كما نعرف تقييد مطرد في نمو كل السلالات القوية الرفيعة، يشكل خطرا قوميا وعرقيا داهما على أوروبا، وإنني أعتقد أنه من الضروري أن يوقف ذلك الرافد الذي يغذي نهر الجنون، قبل مرور عام وإلا أصيبت أوروبا كلها بالجنون” !

 

التحكم في السلالة البشرية

 

التحكم في السلالة البشرية:

السلالات المعاصرة

يتفق السواد الأعظم من الأنثروبولوجيين — قديمًا وحديثًا — على أن كل السلالة البشرية الإنسان المعاصر ليست إلا تفريعات مختلفة من نوع سلالي واحد، هو نوع الإنسان العاقل. لكن — وبرغم وحدة الأصل، فإن هناك اختلافات ملحوظة بين الناس، جعلت الأفكار الإنسانية تشعر بتباين ملحوظ في صفات الناس في الأقاليم المختلفة، وقد وُصِفَتْ هذه المجموعات الإنسانية المتباينة بأنها سلالات مختلفة. وتختلف درجة الاختلاف السلالي بين العلماء القدامى بدرجات متفاوتة، بناء على أفكار مسبقة أو على مشاهدات وملاحظات يحدوها هدف مسبق، هو الفصل بين أصول السلالات المختلفة. ولكن العلماء المحدثين في مجموعهم يدرسون التباين بين مجموعات الناس، بناءً على مقاييس خاصة متفق عليها، ومن ثم فإن اختلاف العلماء المحدثين على تحديد السلالات المعاصرة مرتبط بمدى تطبيق هذه المقاييس — زيادةً أو نقصًا. وسنرى أن هذه الاختلافات في مجموعها ليست سوى تغايرات محلية لعدد محدود من السلالات التي تعمر سطح الأرض حاليًّا.

والرغبة في تصنيف الإنسان الحالي ليست مجرد رغبة طارئة عند الأنثروبولوجيين، بل إن السلالة البشرية منذ القدم ينزع إلى تصنيف كل ما حوله إلى رتب ودرجات بمقاييس مختلفة. فهذا أبيض أو أسود، وهذا جيد وحسن وسيئ، وهذا صغير أو كبير، وغير ذلك كثير، والزمن أيضًا يُصنَّف إلى نهار وليل وساعات وأشهر، ومراحل عمر الإنسان تُصنَّف على المقياس الزمني إلى طفل وشاب وكهل، وكذلك صُنِّف الإنسان منذ القدم إلى سلالات مختلفة على ضوء مقاييس مختلفة كان اللون أكثرها شيوعًا. وما زال لون البشرة أحد المقاييس الهامة في الدراسة العلمية، وله شعبية واضحة في المصطلحات اليومية.

وقد بدأ العالم الطبيعي السويدي لينايوس Carolus Von Linnaeus (١٧٠٧–١٧٧٨) بتصنيف الحياة على أسس ما زالت متبعة لدى البيولوجيين حتى الآن: الفرقة أو الفصيلة – الرتبة – الطبقة – العائلة – الجنس – النوع. وحسب تصنيفه تعرف أشكال الحياة بالفصيلة والنوع، وبقدوم نظرية التطور الدراوينية ثبتت تصنيفات لينايوس؛ لأنها تتفق تمامًا مع فكرة التطور.
وقد أعطى لينايوس اسم الإنسان Homo لكل السلالات المعاصرة، ثم أتبعها بعد دراسة أعمق بالاسم «الإنسان العاقل»؛ لأنها كلها سلالات فرعية لنوع واحد، ومنذ ذلك التاريخ لم يخرج واحد من العلماء عن هذه الفكرة الأصيلة — إلا فيما ندر.
وفكرة السلالة النقية سبق أن عالجناها بشيء من التفصيل، كما نُقِدَتْ أيضًا بشيء من التفصيل، ولعل أحدث نقدٍ لها هو النقد الذي قدمه «جارن»،١ حينما أكد أن الشعر الأشقر والعيون الزرقاء ليست براهين على الأصل النوردي، ولا يوجد ما يدل على عدم جدوى فكرة السلالة النقية أكثر من أن يُولَد لأب واحد ثلاثة أطفال يمكن أن يُصنَّف كل منهم إلى سلالة نوردية وألبية ووسيطة (بحر متوسط).
ولقد ظهرت فكرة السلالة البشرية النقية مرة أخرى بصورة السلالة النمطية التي دعا إليها «هوتن»،٢ وهي سلالة تُقدَّم على أساس إحصائي صرف للصفات الأنثروبومترية، بغض النظر عن الوراثة وغيرها من المؤثرات التي تؤدي إلى طبيعة متعددة النمط للسكان عامةً، وليس نمطًا واحدًا لكل مجموعة. وقد أحيا كارلتون كوون هذه النمطية مرة أخرى، ولكن أفكاره الحديثة لم تَلْقَ سوى الرفض على نحو ما فصَّلْنا في صفحات سابقة.٣

ونظرًا لإساءة استخدام الكثير من المصطلحات التي تصف تصنيف الإنسان (سلالة – أنواع – أشكال – عناصر – مجموعات سلالية – مجموعات سكانية … إلخ) فإن بعض الآراء ترى أنه قد آن الأوان لكي نلغي فكرة السلالة البشرية. ومع ذلك فإن غالبية الآراء ترى ضرورة بقاء هذه الفكرة؛ لسبب بسيط هو أن هناك فعلًا صفات وراثية وصفات قياسية تُعبِّر عن متوسط عام للمجموعات البشرية كلٍّ في أقاليمها.

ولعلَّ الاتفاق العام في الوقت الحاضر هو النظر إلى السلالة على أنها ليست فكرة مطلقة، ولكن فكرة عملية تُقاس بها صفات الناس على أساس عدة مستويات مكانية، ومن ثم فهناك السلالة الجغرافية والسلالة الإقليمية، والسلالة المحلية أو المكانية.

والسلالة البشرية الجغرافية هي أوسع هذه السلالات من حيث الانتشار المكاني في عدة أقاليم جغرافية، ومن ثم فإنها قليلة العدد، وتتميز بأنها سلالات عامة الصفات. وقد ساعد على تكوينها في البداية عوامل حجز جغرافية منعت تسرب جينات وراثية إلى الحد الأدنى من نطاق جغرافي إلى آخر. وهذه العوامل الحاجزة قد تكون صحاري شاسعة أو جبالًا وعرة أو محيطات فاصلة.

التحكم في السلالة البشرية:

عودة الوجه القبيح

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام  1945م ، والسقوط المروع “للنازية” و “الفاشية” في ألمانيا وإيطاليا، ثم كشف النقاب عن بعض الفظائع التي ارتكبت باسم “اليوجينيا” هذا العلم – مؤقتا – إلى المعامل والمختبرات، وتغير اسم المعهد الذي أنشأه “جالتون” في لندن من “معهد اليوجينيا” إلى “معهد جالتون” واعتبرت أوروبا كلها هذا العلم علما عنصريا بمعنى الكلمة.

ومرت عقود من الزمن قبل أن تعود “اليوجينيا” للظهور مجددا، ولكن خارج حدود القارة الأوروبية هذه المرة، وبالتحديد في الصين؛ حيث ظهر تشريع رسمي في عام 1988م بحظر زواج المعاقين ذهنيا إلا في حالة “تعقيمهم” حتى لا يتناسلوا، واستمر العمل بهذا القانون لعدة أعوام حتى تم إلغاؤه بعد ضغوط مارستها منظمات حقوقية دولية على حكومة الصين الشيوعية.

وبعد نحو عقدين ظهرت دعاوى “اليوجينيا” مجددا – على استحياء – في أوروبا وأمريكا، وذلك على أثر صعود نظرية “صدام الحضارات” التي أطلقها عالم الاجتماع الأمريكي”صامويل هنتجتون” ، وما تلاها من نظريات متطرفة تؤكد حتمية الصدام بين الشرق والغرب، بين الشمال الغني والجنوب الفقير، وهو الأمر الذي دعا بعض المفكرين الغربيين المتطرفين إلى القول بأن “اليوجينيا” هي الحل لضمان بقاء الجنس الأبيض.

وعلى المستوى السياسي يمكن اعتبار حرب البوسنة، التي ارتكب فيها الصرب مذابح واسعة النطاق في التسعينيات من القرن الماضي، ضد الألبان المسلمين، نوعا من “اليوجينيا السلبية” ذات الدوافع السياسية، السلالة البشرية حيث تم اغتيال الآلاف من رجال البوسنة والهرسك، وجرت عمليات اغتصاب جماعية بشعة للنساء بهدف “التطهير العرقي” والحيلولة دون استمرار العرق الألباني المسلم، في هذه المنطقة من أوروبا.

ومع عودة جماعات “النازية الجديدة” في ألمانيا، وتصاعد الدعوات المتطرفة في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية،السلالة البشرية تعود نظريات “اليوجينيا” إلى ساحة الأفكار، مشفوعة برغبة جارفة في تخليص أوروبا من السود واليهود والعرب ومن كل المتاعب التي حاقت بالجنس الأبيض على أيدي غير الأوربيين، فهل يكتب “لليوجينيا” الحياة مرة أخرى ؟ هذا هو السؤال الصعب.

طارق الديب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى