في إطار منظومة التغيير وإصلاح وتحديث البلدان العربية, فإن النقاش ينبغي ألا يتجه فقط إلي الدولة ـ مع أهميتها القصوي ـ وإنما ينبغي أن يمتد أيضا إلي تحديث وتفعيل أدوار مؤسسات المجتمع المدني العربي. وفي مقال سابق للكاتب نشر بجريدة الأهرام(23 ديسمبر2003) ولاقي اهتماما كبيرا, طرحنا عشر إشكاليات تواجه مؤسسات المجتمع المدني. وانتهي المقال بضرورة الوقوف وقفة موضوعية لتقييم فعالية الدور الذي تلعبه هذه المؤسسات والتركيز علي الاسهام في عملية التنمية البشرية في عالمنا العربي مع عدم اغفال الابعاد الخاصة بتعميق الممارسة الديمقراطية ودعم الثقافة المدنية, واحترام حقوق الإنسان.
إن المقدمة السابقة تقودنا إلي طرح ومناقشة نتائج تقرير سنوي صدر عن الشبكة العربية للمنظمات الأهلية أخيرا في عام2004, يتضمن دور المنظمات الأهلية العربية في مكافحة الفقر والإسهام في التنمية البشرية. إن التقرير المذكور علي درجة عالية من الأهمية, لعدة أسباب:
1 ـ إن التقرير الذي صدر عن مكافحة الفقر والإسهام في التنمية البشرية هو التقرير السنوي الثالث الذي يصدر عن الشبكة العربية للمنظمات الأهلية, ومن ثم فإنه حلقة في سلسلة اهتمام الشبكة بأهم مؤسسات المجتمع المدني في العالم العربي, وهي المنظمات الأهلية العربية التي وصلت عام2004 إلي حوالي230 ألف منظمة أهلية.
2 ـ إن تقييم التقرير المذكور ينبغي أن يأتي في إطار التراكم العلمي الحديث نسبيا, الذي يستهدف قضايا التنمية البشرية في العالم العربي, بل إن هذا التقرير هو مكمل رئيسي لا غني عنه لموضوع مهم تناولته تقارير التنمية البشرية والإنسانية, يشكل فيه قدر عال من التعميم ينطلق من مجرد ملاحظات ومتابعات فرق الباحثين.. هذا الموضوع المهم هو لاشك المجتمع المدني في الدول العربية.
3 ـ إن تقرير دور المنظمات الأهلية العربية في مكافحة الفقر(2004), هو نتاج عمل فريق من الباحثين يضم16 باحثا وخبيرا عربيا متميزا في مجاله, ويغطي ويحلل أبعاد هذا الدور في14 دولة عربية هي: مصر, سوريا, الأردن, لبنان, فلسطين, تونس, الجزائر, المغرب, اليمن, الكويت, قطر, الإمارات, البحرين, والسودان.
4 ـ إن التقرير المذكور ـ علي الرغم من كل ما يواجهه من صعوبات أهمها توافر بيانات شاملة حديثة ـ يقف ولأول مرة ليقيم الإسهام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي, للمنظمات الأهلية العربية في مواجهة تحد ضخم هو الفقر, وقد عبرت وثيقة الأهداف الإنمائية للألفية عن مكافحة الفقر باعتباره الهدف الأول والرئيسي, الذي ينبغي أن يتوجه العالم نحوه في الألفية الجديدة, ومع تنوع النتائج والاسهامات للمنظمات الأهلية العربية, وذلك في14 دولة عربية, والتي حرص التقرير علي إبرازها, فقد طرح تقرير دور المنظمات الأهلية العربية في مكافحة الفقر, نتائج رئيسية وقضايا واتجاهات عامة, تحيط بهذا الدور.. ويمكننا في هذا السياق إبراز القضايا العامة الرئيسية التي كشف عنها التقرير علي النحو التالي:
هذا السؤال يطرح القضية الأولي التي تواجهنا حين نطالع تقرير الشبكة العربية للمنظمات الأهلية عن مكافحة الفقر.. وبداية أشير إلي أنه لا يوجد موقف مسبق من غلبة التوجه الخيري علي المنظمات الأهلية العربية, إلا أننا لكي نعين القارئ علي اتخاذ موقف, نشير إلي أن التوجه الخيري هو علاقة مباشرة بين مانح ومتلق وهي علاقة تستهدف مساعدة الطرف الأول للطرف الثاني, وبشكل مباشر ومؤقت, لمواجهة الأعباء الاقتصادية والاجتماعية للحياة.
أما التوجه التنموي فيشير في مضمونه الي التمكين.. بمعني مساعدة الطرف الأول للطرف الثاني المتلقي لأن يزداد اعتماده علي نفسه بما يؤدي الي تحسين نوعية حياته, ومن خلال التعليم والتدريب والتأهيل للحصول علي فرصة عمل والارتقاء بذاته.
إن التقرير يؤكد ـ بالأرقام والبيانات ـ إلي أن كل الدول العربية محل البحث, بما فيها مصر, تشهد غلبة كبيرة للتوجهات الخيرية والرعائية( إلي جانبها) علي نشاط المنظمات الأهلية حيث إن أكثر من55% منها علي المستوي العربي تنشط في مجال العمل الخيري( مصر32%, لبنان53,3%, سوريا80%, الكويت78%, السودان70%).
ومن هذا المنظور يؤكد التقرير أهمية توافر رؤية تنموية للمنظمات الأهلية العربية, ويسجل مؤشرات في بعض الدول العربية منذ مطلع الألفية الجديدة ـ للتوجه نحو قضايا التنمية والتمكين, كما يسجل اتجاهات شراكة ملحوظة بين القطاع الأهلي والحكومات العربية لدعم التنمية.
كان هذا السؤال محور القضية الثانية, التي سجلها تحليل نتائج الدراسات في14 دولة عربية, فمن جانب هناك تفاوتات مؤكدة في مؤشرات التنمية البشرية, بين الحضر والريف حيث برز فقر الريف العربي وزيادة نسبة الفقراء.. في مقابل ذلك كشف نتائج تقرير الشبكة العربية للمنظمات الأهلية عن تركز المنظمات الأهلية في الحضر, خاصة العواصم( حالة مصر مثلا68,2% في الحضر) في مقابل ضعف العمل الأهلي في الريف.
ومن ثم فإن التقرير يذهب الي نتيجتين, اولاهما عدم اتفاق خريطة توزيع الفقر مع خريطة التوزيع الجغرافي لمؤسسات المجتمع المدني, ثانيتهما إن عمل وفعاليات مؤسسات المجتمع المدني العربي تتسم بالنخبوية مع تسجيل ضعف ما يعرف بالمنظمات القاعدية الشعبية.
علي الرغم من النتائج السابقة المذكورة لتقرير مكافحة الفقر الذي صدر عن الشبكة العربية للمنظمات الأهلية, فقد انشغلنا جميعا خلال البحث وخلال رحلة صفحات التقرير لمعرفة هل تتوافر حاليا اتجاهات قوية وجديدة لمكافحة الفقر.. وقد لمسنا من خلال المؤشرات والنماذج تشكل التوجه نحو مكافحة الفقر.. والتي عكسها عدد من الأمور أولها ان دولا عربية كثيرة قد اصدرت في الألفية الجديدة استراتيجيات لمكافحة الفقر, ساهم في صياغتها وتبلور رؤيتها.. أطراف فاعلة في المجتمع المدني, وإن هذه الاستراتيجيات قد تضمنت برامج ومشروعات يضطلع بها المجتمع المدني, منفردا أو شريكا للحكومة. من أهمها ما طرحته المغرب والأردن واليمن.
ثاني هذه الأمور الإيجابية التي تتعلق بالتوجه نحو مكافحة الفقر, الاهتمام غير المسبوق في الدول العربية بالاهتمام بالمرأة المعيلة الفقيرة(16,7% في مصر,18% في المغرب). وكانت هناك مظاهر شراكة قوية بين الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني, في بلدان عربية كثيرة أولها مصر.
ثالث ملامح التوجه التنموي, تمثل في مظاهر الاهتمام بقضية التنمية الريفية وجود عشرات من البرامج المتكاملة للمنظمات الاهلية للاسهام في تنمية الريف( مشروع خدمات القرية المجمعة في الأردن, ومشروع التوجه للريف في تونس, والاهتمام غير المسبوق في مصر بالوجه القبلي).
رابع هذه الملامح تمثل في استهداف تطوير العملية التعليمية من جانب قطاع كبير من المنظمات الاهلية, في الدول العربية خاصة ما تعلق بالقيد في التعليم الأساسي وتكافؤ الفرص بين الجنسين ومشكلات التسرب من التعليم.
إن التقرير الذي صدر عن الشبكة العربية للمنظمات الاهلية حول مكافحة الفقر( عام2004), يؤكد أولوية التوجه التنموي واستهداف التمكين, ويؤكد ان الوقت قد حان لبلورة مؤشرات اقتصادية واجتماعية لقياس اسهام مؤسسات المجتمع المدني في التنمية, وهو مشروع ضخم تتبناه الشبكة العربية حاليا, كما استمر هذا التقرير السنوي الثالث يلح علي اهمية توفير قاعدة بيانات متكاملة لمؤسسات المجتمع المدني, وهو للأسف يشكل صعوبة رئيسية أمام الجماعة الأكاديمية المعنية بالبحث في هذا المجال.
د. أماني قنديل