المجلةحلول مبتكرة

تيد وأخواتها تجارب تستحق الانتشار بقلم : د . مجدى سعيد

تيد وأخواتها .. أفكار وتجارب تستحق الانتشار

بقلم : د . مجدى سعيد

 

تقوم الحياة على توازن دقيق بين زوجي التقليد والتجديد “ومن كل شيء خلقنا زوجين اثنين”، فالحياة بحاجة إلى نوع من الاستقرار الذي يصنعه التقليد، لكنها بكل تأكيد تأسن بدون التجديد، لذلك تحتفي البلدان الناهضة والمتقدمة كثيرا بالأفكار الجديدة لأنها الأفكار التي تصنع المستقبل انطلاقا من الحاضر، أيا كانت مجالات تلك الأفكار، وأيا كانت المنتجات المتوقعة لتلك الأفكار، ذلك لأن الأمم في تلك البلدان تعرف تمام المعرفة أنه لا تقدم ولا نهضة دون أخذ تلك الأفكار الجديدة التي تستحق الانتشار مأخذ الجد، ولأنهم يعرفون أيضا أن التخاذل أو التراخي في ذلك يعني أنهم وبلدانهم عرضة لأن يسبقهم غيرهم في ركب الحياة. أما البلدان والأمم والجماعات في غير تلك البلدان فإنها تحتفي أشد الاحتفاء بالجمود، والتقليد وتخاف كثيرا من الأفكار الجديدة التي تستحق الانتشار.

من أجل ذلك جعل القوم لعرض تلك الأفكار الجديدة التي تستحق الانتشار محفلا عاما يعقد دوريا لعرض تلك الأفكار وتقديمها للمجتمع العام أسموه “تيد أو TED” وهي اختصار لمجالات الأفكار التي كانت تعرض في بداية تنظيم تلك المحافل عام 1984 وهي التكنولوجيا والتسلية والتصميم، لكن ذلك الإسم المختصر وتلك المحافل توسعت فيما بعد لتشمل كل “الأفكار التي تستحق الانتشار” في كافة مجالات الحياة، وليس في تلك المجالات فقط، ومن ثم تطورت “تيد” لتكون مجموعة من الفعاليات غير الهادفة للربح هي أشبه بالمنصة التي تتيح لأصحاب الأفكار من طيف واسع من الاهتمامات – من قضايا العلوم والبيزنس إلى القضايا الدولية عرض ما لديهم من أفكار على حضور من الجمهور العام المتشوق لتلك الأفكار والشغوف بها، ومن ثم صار لتيد فعاليات يتم تنظيمها بما يزيد عن 100 لغة. ولأن أهل تلك البلدان ماهرون في تسويق نماذجهم وتجاربهم وأفكارهم، فقد راقت الفكرة للكثيرين حول العالم، فارتأى القائمون على تيد إعطاء حق الامتياز للراغبين في تنظيم فعاليات تلتزم بالمواصفات والأهداف والمعايير الخاصة بالفعالية الأصلية، لكن أصحابها ينظمونها بشكل مستقل عن تيد الأصلية، وقد أطلق على تلك الفعاليات اسم “تيد إكس TEDx”. وفي تلك الفعاليات سواء الأصلية منها أو المستقلة يقوم من لديهم أفكار أو تجارب في حياتهم، يرونها جديرة بالعرض على الجمهور بأخذ الفرصة لعرض أفكارهم وتجاربهم في مدة 18 دقيقة لكل متحدث،..ولأننا في عصر السماوات المفتوحة، فإن محاضرات وعروض العارضين سواء في تيد الأصلية أو المستقلة تتاح بشكل مجاني على الإنترنت، ليشاهدها الملايين مجانا، ولأن الأفكار والمعارف والخبرات التي يقدمها أصحاب تلك الأفكار والتجارب تستحق الانتشار بالفعل، اكتسبت تلك الفعاليات وما يقال ويعرض فيها المصداقية والانتشار في كل بقاع العالم. حتى صارت علامة على الجدة والجدارة والجودة، ففي تيد إكس القاهرة مثلا تحدث كثير من من هؤلاء كالدكتور شريف عبد العظيم ودكتورة فيروز عمر، ودكتور عمرو الفص والراحل المهندس علي شعث وغيرهم.

فكرة محافل تداول الأفكار والتجارب التي تستحق الانتشار ليست بالجديدة، بل إنها تذكرني بتجربة من تجارب تاريخنا الحديث المنسية وهي تجربة “نادي المدارس العليا”، والذي كان منبت للكثير من الأفكار التي تولدت عنها كيانات اجتماعية كانت جزءا من مشروع الحزب الوطني القديم للنهضة والاستقلال، لذا قد يكون من المفيد تذكر ما قالته عنه كتب التاريخ:

“تفتحت في قلوب الشباب زهرة الوطنية التي أنبتتها دعوة مصطفى كامل وأخذت تجيش بالشعور الوطني وتتحرك نحو أغراضه وأهدافه، وبدأت علائم اليقظة والحياة تظهر فيهم بشكل عملي سنة 1905، وكان أول مظهر لهذه الحياة الجديدة أن فكر طائفة منهم في إنشاء ناد للمدارس العليا، يجمع بين طلبة هذه المدارس وخريجيها. كان هذا النادي من أعظم مظاهر الحركة الوطنية في ذلك العصر، وصار بمثابة معهد وطني علمي وأخلاقي تكون فيه جيل من خيرة الشباب المصري، وفيه ظهرت حركة فكرية قومية أنتجت على توالي السنين عدة مشروعات جليلة كان لها فضل كبير على النهضة الوطنية، فقد ظهرت فيه قوة الشبيبة المعنوية ووحدتها، وامتزج الطلبة بالمتخرجين فاكتسبوا بهذا الاتصال النضج الفكري والمعنوي، وفيه ألقى أعلام الفكر والعلم المحاضرات القيمة في مختلف العلوم والفنون، وفيه تأسست جمعية رعاية الأطفال، وفي قاعاته اجتمعت وقتا لجنة إنشاء الجامعة المصرية، وفيه تأسست مدارس الشعب، فأنشئت عدة مدارس لتعليم العامة، وقام أعضاء النادي بالتدريس فيها (وهي المدارس التي خرجت منها فكرة ومبادرة إنشاء نقابة عمال الصنائع اليدوية، والتي كانت أول نقابة وطنية تجمع عمال المصانع الحديثة والحرفيين)، وفيه نشأ مشروع النقابات الزراعية على يد المرحوم عمر بك لطفي، وفيه أخذ الطلبة يروضون أنفسهم على الأخلاق والفضائل والتضامن، وكان فوق ذلك معهدا قوميا لنشر المبادئ الوطنية الصادقة وبثها في نفوس الجيل.”

ربما تختلف الفكرة نوعا ما أو يختلف سياقها عن تيد وأخواتها، لكن المشترك بينهما هو إيمان شباب الأجيال السابقة من الطلبة والخريجين من المدارس العليا (أو الكليات الجامعية) بأهمية تداول الأفكار والتجارب الجديدة والتي تستحق الانتشار، وإيمانهم بأن ذلك من شأنه أن يساهم في صناعة حياتهم ونهضتهم واستقلالهم، لكن المختلف في تيد عن نادي المدارس العليا وأشباهه هو صيرورتها “ماركة” عالمية تعطى لها “حقوق الامتياز” وأنها جاءت في عصر المعلومات والسماوات المفتوحة، مما أتاح لها الجماهيرية التي تخطت الحدود إلى العالمية. وأيا كان مصدر فكرة مثل تيد وأخواتها إلا أنها بذاتها جديرة بالانتشار في زمان ومكان نحن أحوج ما نكون فيه إلى الأفكار التي تستحق الانتشار.

يمكن على سبيل المثال مطالعة موقع تيد إكس القاهرة على الموقع التالي:

كما يمكن مطالعة تراث محاضرات تيد إكس القاهرة على صفحتها على اليوتيوب:

صفحة الدكتور مجدي سعيد على الفيسبوك

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى