تعيد دراسات وتقارير المنظمات الدولية – مثل: تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة، وتقرير البنك الدولي- الاعتبار للدين والثقافة والقيم والعادات والتقاليد والعدالة الاجتماعية في تحقيق العدالة والتنمية الاقتصادية والسياسية.
وكان اتجاه التنمية ومكافحة الفقر في الخمسينيات والستينيات إلى الاستثمارات التجارية ومرافق البنية الأساسية، وفي السبعينيات اتجهت التنمية إلى التعليم والرعاية الصحية، وفي الثمانينيات إلى تحسين إدارة الاقتصاد والسماح لقوى اجتماعية واقتصادية أن تلعب دورًا أكبر، واقترح تقرير العام 1990 للتنمية البشرية تشجيع الاستخدام المكثف للأيدي العاملة، والانفتاح الاقتصادي والاستثمار في مرافق البنية الأساسية، وتقديم الخدمات الأساسية للفقراء في مجالي الرعاية الصحية والتعليم، وبدأ خلال التسعينيات مفهوم حسن نظام الإدارة للمؤسسات.
وفي أوائل القرن الجديد اقترح البنك الدولي إستراتيجية تعتمد على تكافؤ الفرص والمساواة، ومكافحة الفساد، والتفاعل بين العمليات السياسية والاجتماعية والعمليات المؤسسية الأخرى لتقوية مشاركة الفقراء في العمليات السياسية، واتخاذ القرارات على المستوى المحلي، وإزالة الحواجز الاجتماعية القائمة على الجنس أو العرق، والأمن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والبيئي.
وأعاد البنك الدولي أسباب الفقر والفشل الاقتصادي إلى شعور الناس بأنه لا يسمع لهم صوت، وأنهم لا حول لهم ولا قوة في مؤسسات الدولة والمجتمع، واستخدم التقرير مصطلح “رأس المال الاجتماعي” باعتباره موردًا أساسيًّا للتنمية.
وقد استخدمت مؤسسات دولية متخصصة مثل: نادي روما مصطلح “التنمية الضالة” للتأكيد على أن المشروعات الحكومية والدولية التي اتبعت وأُنفق عليها الكثير من المال والوقت أدت إلى مزيد من الفقر والفشل والظلم.
ويقدم علماء غربيون مثل: “الان بيرفت” مؤلِّف كتا ب “المعجزة في الاقتصاد”، ومؤسسات دولية مثل: منظمة الأغذية الزراعية “الفاو” أفكارًا قائمة على أن التنمية والاكتفاء الذاتي ترتبط بثقافات الشعوب والمجتمعات وسياسات الدولة العامة أكثر مما ترتبط برأس المال والموارد المادية وحدها.
فيطرح بيرفت سؤالاً في كتابه “المحنة الفرنسية”: هل ينبغي استبعاد واقع أن أكثر السمات غير المادية في المجتمع: كالدين، والثقافة، ودوافع العمل، والموقف تجاه السلطة، وردود الفعل التاريخية، وأخلاق الفرد والجماعة، والتربية والقيم تعدل من سلوك كل شعب؟ وتحور مسار كل حضارة حتى في أكثر المجالات مادية كالاستثمارات والإنتاج والتبادل ومعدلات النمو؟ .. لم يختزل الاقتصاد في مواد أولية، ورؤوس أموال، وأيد عاملة؟ ولمَ لا يكون قبل أي شيء آخر ثقافة مواتية للاقتصاد؟
ماذا لو كانت الديمقراطية لا تنحصر في المؤسسات؛ بل تتطلب حساً عاملاً قادراً على تفعيلها؟ ماذا لو كان هذا التأثير للعامل الثقافي هو السبب الحاسم – وليس الوحيد بالطبع – للتخلف والتقدم الاقتصادي وللأزمات كما للتوازنات السياسية؟
لماذا تستطيع الهند الجنوبية إطعام 385 شخصاً في الكيلومتر المربع الواحد في حين إن إفريقيا الاستوائية التي تسخو عليها الطبيعة بالمطر، والشبيهة بالهند من حيث مناخها وطبيعة أرضها وتضاريسها تكاد لا تستطيع أن تطعم أربعة أشخاص من سكانها في الكيلومتر المربع الواحد؟ من المؤكد أن الفرق يكمن في البشر لا في الأرض.
ويجد كثيرون من المحللين الاقتصاديين سر النهضة الاقتصادية عند مهزومي الحرب العالمية الثانية (اليابان، وألمانيا، وإيطاليا) في أسباب معنوية تتمثل في رغبة بالخروج من البؤس والهزيمة، والمبادرة، والتصميم على صنع حياة جديدة بأي ثمن.
وتشكل المرجعيات الثقافية والدينية أنظمة عمل تؤثر بوضوح في السوق والاقتصاد مثل:دفع الضرائب أو التهرب منها؛ فالتزام الناس بأداء الحقوق باعتبارها دَيْنًا واجب السداد لتكليف ديني أو ثقافة اجتماعية يقلل كثيرًا من أعباء النزاعات والإدارة ويقلل من الهدر، ويجعل التهرب من أداء الضريبة أو الدين عيبًا وانحرافًا اجتماعيًا يؤثر على سمعة الإنسان وموقفه الاجتماعي، ويمكن تطوير ذلك على نحو مؤسسي عندما تتعاون المؤسسات في تبادل المعلومات حول من يتهرب من دفع التزاماته. ويحدث العكس أيضًا عندما تنشأ ثقافة تشجع على الفساد والمحسوبية والتهرب من الواجبات الضريبية والعامة.
وتكون الثقافة أحيانًا بديلاً فعّالاً للمؤسسات الرسمية وبخاصة في الدول الفقيرة أو المجتمعات البعيدة والمعزولة، ولكنها فعالة أيضا ومستخدمة في أبراج الشركات التجارية الكبرى في المدن العامرة.
ويمكن أن تفرض الثقافة الدينية ولاجتماعية سياسات عامة لمكافحة الفساد أكثر فعالية من القوانين والأنظمة المؤسسية المالية والإدارية والقضائية، وهناك دلائل قوية على أن المستويات الأعلى للفساد تقترن بمستويات أدنى من التنمية ومن دخل الفرد.
وقد وجدت حركات بيئية كثيرة الحل من مواجهة التلوث والعمل الإيجابي لبيئة نظيفة في تنظيمات اجتماعية تجعل الناس قادرين على حماية البيئة ومنع المشروعات التي تضر بهم. ويلاحظ أن معظم إن لم يكن جميع المشروعات التي تعتدي على البيئة وحياة الناس مردّها الرئيس إلى ضعف السكان المقيمين في محيط منطقة المشروع، واستقواء الشركات عليهم، وضعف أو انعدام الجمعيات والمؤسسات التي تنسق جهود الناس وتسعى لتحقيق احتياجاتهم. وفي المقابل فقد أمكن إقامة مشروعات ناجحة في التنمية أو في مواجهة اعتداءات الشركات والحكومات.
ويؤكد تقرير التنمية البشرية لعام 1999 على أن مفاهيم الكفاءة الاقتصادية والأسواق التنافسية على أهميتها ليست كافية لتحقيق التنمية، وأصبحت السياسات الاجتماعية أهم اليوم مما كان من قبل من أجل توظيف العولمة لخدمة التنمية البشرية وحماية الناس من تهديداتها الجديدة.
ويعرض التقرير تجارب متشابهة لأقطار مختلفة بعضها نجحت وبعضها فشلت برغم التماثل في الإجراءات والسياسات، والسبب هو اختلاف التقاليد والثقافات وإجراءات الحماية والتعزيز التي اتخذتها الدول لمواجهة الآثار والتداعيات المختلفة أو ما يمكن تسميته بـ “المحاسبة الاجتماعية”.
هذه العودة (الفكرية والتنظيرية) إلى الموراد الاجتماعية والثقافية والمعرفية أساس للتنمية والتقدم، تقدم فهمًا جديدًا يتفق مع التحولات العالمية نحو المعرفة “اقتصاد المعرفة ومجتمعاتها”، يصلح أن تلتقطه الجماعات والحكومات التي تشكو قلة الموارد المالية لتعيد النظر في حساباتها وبرامجها، وقد يفسر أيضًا ضعف الأحزاب العربية وعزوف الجماهير عن المشاركة فيها برغم الحرية المتاحة لها؛ بل والرغبة الرسمية في تنميته وحضورها.
إبراهيم غرايبة