في عام 1999، بينما كان بريان لونجدن يبحث في تاريخ عائلته، أعطاه أحد أقاربه عددا من جريدة “ذا كريسنت” The Crescent صادر في 3 أبريل من عام 1907، وفيها صورة لجد جده “روبرت ستانلي” Robert Stanley يجلس في الصف الأول للصلاة مرتديا الطربوش العثماني في مصلي معهد مسلمي ليفربول خلف عبد الله كويليام مؤسس أول مجتمع مسلم في ليفربول.
Table of Contents
من هو روبرت رشيد ستانلي
كان اكتشاف إسلام الجد روبرت من خلال تلك الصورة مفاجأة لبريان، ولابنه الذي كان قد أسلم منذ عام 1991، ومن هنا انطلقت رحلة بحث شارك فيها أفراد أسرة بريان، وأخرجتها ابنته كريستينا Christina Longden عام 2019 في كتابين أحدهما تأريخي توثيقي، والآخر روائي، فمن هو روبرت “رشيد” ستانلي؟ وما هي قصته؟
كان روبرت ستانلي عمدة لمدينة ستاليبريدج Stalybridge في الفترة ما بين 1874 إلى 1876، وستاليبريدج هي إحدى 3 مدن (يضاف إليها داكينفيلد، وآشتون) ازدهرت في فترة تصنيع القطن إبان الثورة الصناعية، وهي جزء من مانشستر الكبرى، التي كانت توصف آنئذ بملك القطن “King Cotton”. لكن منصب روبرت كعمدة للمدينة كان آخر منصب تولاه في رحلة طويلة من الخدمة العامة، حيث انتخب عضوا بالمجلس البلدي لمدينة ستاليبريدج منذ عام 1863، ثم قاضيا محليا لتحقيق العدالة والسلام بالمدينة عام 1867، ثم عضوا بالمجلس المدرسي للمدينة عام 1871 بعد إصدار قانون التعليم الإلزامي في بريطانيا بعام، وخلال عضويته بالمجلس البلدي تولى رئاسة لجنة البناء، وذلك إلى أن انتخب عمدة للمدينة عام 1874.
روبرت رشيد ستانلي وعضوية المجلس البلدي
لكن روبرت – حينما انتخب بداية لعضوية المجلس البلدي – كان أول شخص من خارج طبقة النبلاء والأثرياء ينتخب في مجلس المدينة، حيث كان روبرت حينها بقالا، وتاجرا للشاي، ولم يكن منتميا لهذه الطبقة، بل كان أصلة من الطبقة العمالية الفقيرة، كان أبواه قد هاجرا من مدينة آشتون إلى كارديف في الجنوب، حيث عمل والده صانعا للقبعات وبائعا لها في شوارع كارديف، حيث ولد روبرت عام 1828، لكن أحواله المعيشية لم تكن على ما يرام، لذلك وفي سن العاشرة أرسله أبوه إلى عمه جون ستانلي في آشتون، والذي كانت أحواله قد تحسنت وصار من الأثرياء حيث استطاع أن يمتلك محلجا للقطن، ومنجما للفحم ومتجرا، حيث عمل روبرت مساعدا لعمه في المتجر، وقد تكفل عمه برعايته، وساعده في الحصول على قدر من التعليم غير الرسمي المتاح حينئذ، إلى أن تزوج وأصبح يمتلك متجرا للبقالة في ستاليبريدج.
نضالات الطبقة العاملة
كانت منطقة المدن الثلاثة خلال الفترة التي عاش فيها روبرت تموج بحراك اجتماعي واقتصادي كبير، تمثل في نضالات الطبقة العاملة (المهاجرة من مناطق عدة في المملكة في الأغلب)، وبين ملاك المحالج والمصانع من أجل تحسين أوضاع العمالة والعمل، ونضالات من أجل اكتساب الحقوق السياسية وتحسين الأحوال المعيشية، واتخذت تلك النضالات في أكثر من فترة شكل اضطرابات عنيفة سالت فيها الدماء، وتم الاعتداء على المنشآت وسادت حالات سلب ونهب، نتيجة تردي الأحوال المعيشية لعمال تلك المدن وأسرهم، في ظل صعود وهبوط واضطراب الأحوال الاقتصادية. كما شهدت المدن كذلك اضطرابات دينية بين الأغلبية التي تنتمي لكنيسة إنجلترا من جانب، وبين الطوائف البروتستانتية غير المطابقة والروم الكاثوليك (المهاجرين في الأغلب من أيرلندا) من جانب آخر.
روبرت رشيد ستانلي العيش في ظل الاضطرابات
وقد عاش روبرت في ظل كل تلك الاضطرابات يراقب ويتعلم من القراءة ومن حضور ومتابعة الفعاليات، وقد أكسبته المعايشة اليومية والقراءة والتعلم من الحياة ونضالاتها خبرة وحكمة واتزانا في الآراء والمواقف، وميلا إلى تحقيق العدل، وشخصية تأبى على الانصياع لإملاءات القوالب التي تفرضها الانتماءات السياسية و/ أو الدينية، حيث كانت اختياراته أثناء عمله وحياته العامة في كثير من الأحوال حسب مقتضى الحال وبما يحقق المصلحة. وقد جعلته تلك الصفات والاختيارات محل احترام في أغلب الأحوال، حتى من مخالفيه في الانتماءات.
روبرت رشيد .. ثقافة واتجاهات
لكن ثقافة ومعرفة واتجاهات روبرت المستقلة نوعا ما، لم تكن فقط قاصرة على الشأن المحلي، لكنها انصرفت أيضا إلى الشأن الدولي والسياسة الخارجية البريطانية المثيرة للجدل في زمن الإمبراطورية، وهو ما اكتسبه من احتكاكه الطويل مع الجاليات الأجنبية المتنوعة (ومنها جالية عربية وإسلامية) في مدينة مانشستر، حيث كان قد افتتح مكتبا لتجارة الشاي في أهم مبنى تجاري فيها، كما تعمق اهتمامه بهذه الشئون أيضا من متابعته وصداقته مع الدبلوماسي وعضو البرلمان البريطاني المحب للعثمانيين ديفيد أوركوارت (1805 – 1877) والذي كان قد افتتح ما يسمى بلجان الشئون الخارجية في عدة مدن، ومنها ستاليبريدج ليعمق اهتمام الناس وفهمهم لها، والذي كانت له آراؤه المؤيدة للدولة العثمانية والمناهضة للسياسات البريطانية العدائية معها، خاصة فيما يتعلق بتدخلاتها في الشئون الداخلية للدولة العثمانية بحجة حماية ودعم الأقليات سواء من الأرمن أو من دول البلقان، وهو ما شجع أهل تلك البلدان على الدخول في سلسلة من القلاقل والاضطرابات والحروب من أجل الانفصال عن الدولة العثمانية.
روبرت رشيد ستانلي والشأن الخارجي
ومن خلال تلك المؤثرات تعمق اهتمام روبرت بالشان الخارجي، وتبنى على مدار سنين طويلة نفس الآراء والمواقف المؤيدة للدولة العثمانية، والمعارضة للتدخلات البريطانية في شئونها، وهو ربما ما قاده للتعرف على جريدة “ذا كريسنت” التي كان يصدرها كويليام، والتي صار يراسلها معبرا عن آرائه ومواقفه في الشئون الخارجية حتى قبل إسلامه بسنوات، وفي نفس الفترة أيضا كان قد تواصل مع السلطان عبد الحميد الثاني، ناصحا إياه بالاهتمام بالكيمياء الزراعية والاهتمام بإنشاء جيل جديد من التقنيين الذين يساعدون في تطوير التصنيع المحلي في الدولة العثمانية، ومن ثم الاستغناء عن استيراد كثير من السلع والمنتجات، كما اهتم روبرت، وحتى قبل إسلامه، ومن خلال مطالعته لترجمة القرآن المتاحة نصح السلطان عبد الحميد بضرورة العمل على أن يقوم مسلم بترجمة القرآن بدلا من الترجمات التي كانت متاحة قبل ذلك.
وبمرور السنين تكررت المراسلات بين روبرت وبين كويليام، وتعمقت صداقتهما، وتلاقوا ربما سواء في مانشستر أو ليفربول، إلى أن قرر روبرت عام 1898 أن يشهر إسلامه في زيارة له لمعهد مسلمي ليفربول، وهو القرار الذي اتخذه وقد قارب على السبعين من عمره، والذي كان يختمر ربما وتتراكم أسبابه المختلفة على مدار 40 عاما كما تشير حفيدته كريستينا في كتابها عنه والذي يحمل عنوان “His Own Man.. A Victorian Hidden Muslim, The Life and Times of Robert Raschid Stanley” والذي يتناول حياة وزمان روبرت “رشيد” ستانلي.
لماذا أخفت عائلة روبرت إسلامه
وكما تشير الكاتبة فقد اكتسب روبرت مكانة كبيرة لدى عبد الله كويليام، فعينه نائبا لرئيس معهد مسلمي ليفربول، ومن ثم صار روبرت حاضرا في كل المناسبات المهمة التي شهدها المعهد ومنها استقبال كبار الزوار، وإقامة المراسم والاحتفالات الكبرى، كما ظل حاضرا بكتاباته في الجريدة بعد إسلامه كما حضر قبل إسلامه، كما حظي روبرت باستقبال كويليام في مانشستر التي كان قد انتقل إليها لبضع سنين، وذلك حينما كان كويليام يقوم بإلقاء محاضرات هناك في أماكن وحول موضوعات مختلفة.
وقد بقي الوضع كذلك إلى أن غادر كويليام بريطانيا في عام 1908، وتشتت شمل مجتمع مسلمي ليفربول، وأغلقت مؤسساته، ولم يلبث روبرت بعدها طويلا حيث توفي في عام 1911 عن 83 عاما.
وبعد أكثر من مائة عام على وفاته أحيت أسرة من الجيل الثالث من أحفاده ذكراه وقصة تحوله إلى الإسلام، عبر كتابين، وعبر جولة للتعريف به وبالكتابين تقوم بها الكاتبة والأسرة في المدن البريطانية، وعبر موقع عنه وعن قصته وإسلامه.
لماذا أخفت عائلة روبرت إسلامه
ولكن يبقى السؤال، لماذا أخفت عائلة روبرت إسلامه كل تلك السنين، ترجح كريستينا في كتابها أن الجو العدائي الذي كان يملأ أجواء بريطانيا، سواء في الصحافة أو في المجتمع أو من قبل الحكومة ضد الأتراك والدولة العثمانية وضد كل من يناصرهم في المجتمع البريطاني – ومنهم كويليام وروبرت – في وضع لا يحسدون عليه، فضلا عن أن عدم مشاركة أسرة روبرت له في إسلامه، وميل أبنائه وأحفاده المباشرين للمشاركة في الحكم المحلي كما فعل، حيث تولى بعضهم منصب عمدة ستاليبريدج في أوقات لاحقة، فضلا عن خلو مجتمع المدينة تقريبا من وجود مجتمع مسلم، كل ذلك جعل الأسرة توثر الصمت وإخفاء الأمر، حتى أن الكاتبة تشك في أنهم قد أقاموا له مراسم دفن إسلامية في مدفن الأسرة.
في نهاية قصته، تختم كريستينا كتابها عن حياة جدها الأكبر روبرت بقولها: مع ذلك، وبفضل قوة شخصيته وكدليل على شجاعته ومثابرته وقناعاته، وجدت روح هذا المولود الشمالي (المنتمي لشمال إنجلترا) الفخور طريقها نحو العقيدة الإسلامية. واليوم – على الرغم من إسكاتها لأكثر من قرن – وجدت حياة ومعتقدات هذا المسلم الأكثر تميزا طريقها عبر الظلام بالعودة إلى الضوء.
د. مجدي سعيد