بنك المعلوماتالمجلة

محاكم التفتيش الحديثة

.. حتى في الغرب – العلماني المتحرر – توجد مواضيع علمية يصعب البحث فيها أو مناقشتها علناً. صحيح انه لا توجد سلطة قانونية أو تشريعية تحرم البحث في هذا المجال أو ذاك – وصحيح انه لا يحق لأي طرف ضرب أو تفجير من يختلف معه في الرأي – ولكن توجد عواقب أدبية تسيء للباحث نفسه وتفرض عليه قيوداً مهنية وأكاديمية غير معلنة..

– ومن المواضيع التي يصعب الخوض فيها هناك:

٭ البحث في مسائل فلكلورية خارقة – كالسحر والفودو والشعوذة والعين.

٭ البحث في قضايا مغرقة في الرومانسية والحب (مثل وجود أساس كيميائي للعشق)!

٭ التصديق بوجود الأطباق الطائرة وهبوط مخلوقات متقدمة من الفضاء الخارجي..

٭ تأييد نظرية داروين في النشوء والارتقاء في الأوساط المحافظة أو المتدينة!

٭ معارضة نظرية داروين في النشوء والارتقاء في الأوساط العلمانية المتحررة!

٭ البحث في أي موضوع يعارض ما جاء بالكتب المقدسة (مثل كيفية الخلق وظهور الإنسان).

٭ طرح أي فرضية تتعارض مع المسلّمات العلمية العريقة (مثل وجود شيء أسرع من الضوء، أو اختراع محرك ذاتي الحركة، أو اكتشاف مادة مضادة للجاذبية، أو حتى ريجيم اتيكنز الذي يشجع على تناول المزيد من الأطعمة الدهنية..)!!

ورغم أن الخلاف يأتي غالباً بطريقة (ناعمة وسلسة) إلا أن هناك منظمات محافظة تأخذ على عاتقها شن حرب صريحة وشرسة ضد كل من يبحث في قضايا ما وراء الطبيعة.. ففي أمريكا مثلاً هناك منظمة تطلق على نفسها: لجنة التحقيق العلمي وتقصي الادعاءات الخارقة (ويطلق عليها اختصاراً CSICOP) وقد تأسست هذه المنظمة عام 1976 على يد بروفيسور متخصص في مناهج البحث العلمي من جامعة نيويورك يدعى بول كيرتز.. ويشدد كيرتز على ضرورة إخضاع أي ادعاء خارق (مثل رؤية الأشباح أو الحلم بالمستقبل) لمناهج التحقيق العلمي والاختبار التجريبي.. ولكن – لأن معظم الادعاءات الخارقة لا يمكن إثباتها بطريقة مخبرية أو منهجية تقليدية (مثل التخاطر ووجود الجان والرؤية عن بعد) تحولت أعمال اللجنة من «التحقيق» إلى «الرفض» الغالب لأي ادعاء من هذا النوع.. واليوم اكتسبت اللجنة عداوة العلماء والباحثين ممن أصبحوا ينظرون إليها كبوليس علمي (أو محكمة تفتيش بثوب عصري حديث)…

على أي حال، رغم أن منظمة CSICOP تعد الأكثر شهرة وسطوة إلا أنها ليست الوحيدة في هذا المجال، فهناك مثلاً (جيمس راندي) الذي عمل في شبابه على تقديم العروض السحرية الخارقة ثم تركها وتخصص في كشف خداع «السحرة» وفضح أساليبهم. وقد انشأ مؤسسة خاصة باسمه (مؤسسة راندي لتقصي الحقائق) مهمتها تثقيف الجماهير وطلاب المدارس وإثبات ان أعمال السحر والشعوذة والتنجيم ليست إلا خداعاً وتلبيساً على العقول.. ولعل أكثر ما يثير الاعجاب في مؤسسة راندي تخصيص مليون دولار كجائزة لمن يثبت بطريقة علمية منهجية امتلاكه لقوى خارقة..!

.. بقي ان أشير إلى أن طبيعة الخلاف بين البشر تقتضي وجود (محاكم تفتيش) بصورة مختلفة وأشكال شتى.. غير أن – محاكم التفتيش هذه – تتفاوت بين مجتمعات العالم من حيث قدرتها على الحصار وفرض البطش والعقاب(!!). ففي حين تصل درجة الخلاف حد الاغتيال والتفجير في بعض الدول لم يصل تزمت المؤسستين السابقتين حد العنف أو التهجم على الشخصية دون المنهج… (بل على العكس تمنح CSICOP شهادة تأييد لمن يثبت خطأها في حين وضع راندي جائزة بمليون دولار لمن يثبت النقيض)…

فهد عامر الأحمدي

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى