الدولة والشريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر
تدفعنا تجارب الإسلاميين في الحكم وتداعياتها، كذلك المد الجهادي في الوطن العربي وراية الشريعة التي رَفعتها هذه الجماعات المُتباينة لبنةً لمشروعهم السياسي المستهدف تحقيقه – “الخلافة” – إلى البحث في الأصول الفكرية التي تشكل وعي هذه الجماعات تجاه شكل الدولة ومن ثم تطبيق الشريعة. فعلى الرغم من الكتابات المُتنوعة حول هذه المسألة طوال ما يزيد عن قرن مضى منذ بدايات الاحتكاك بين أوربا والبلدان العربية عن طريق الاحتلال العسكري وما تبعه من غزو فكري أنتجَ جِدالات متعددة المستويات حول العلاقة بين الدين والدولة، لم تَزل هذه الجدالات متداولة بل ومُبهمة في وعي الكثيرين سواء من هم خارج التيار الإسلامي أو داخله. فعند النظر إلى المشهد الإسلامي نجد أنّه على الرغم من تنوع مرجعياته الجماعاتية تظل الدولة الإسلامية مجرد شعارات أكثر منها إشكاليات ومشروعات قابلة للتنفيذ، أما من هم خارج إطار الجماعات الإسلامية فخلفيات هذه الدعوات/القضايا وطبيعة مركزيتها في وعي هذه الجماعات أمرٌ غير واضح.
ومن هنا يأتي كتاب “الدولة والشريعة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر” حيث يقدم لنا مؤلفه برّاق زكريا خريطة مُبسطة شاملة لأكثر المفكرين الذين لعبت كتاباتهم في هذه المسألة دورًا كبيرًا في الحركة الإسلامية عبر مراحلها، والذين شكلوا وعي هذه الجماعات تجاه مسألة الحكم.
يشتمل الكتاب على ثلاثة أقسام؛ يتحدث في الفصل الأول من القسم الأول عن ظروف نشأة الدين وماهيته وأدواره ووظائفه، وفي الثاني ماهية الدولة وبواعث نشأتها ووظائفها، في حين يناقش الفصل الثالث نظريات العلمانية ونشأتها. وفي القسم الثاني يرصد إشكالية العلاقة بين الدين والدولة في أوربا واشتباك أشهر زعماء النهضة العربية معها، كذلك يستعرض أفكارهم تجاه الدولة والحاكم في الإسلام. أما القسم الثالث فيتعلق بالحديث عن الإحيائية الإسلامية وأفكارها وأبرز روّادها من خلال استعراض أفكار مفكرين ذوي خلفية إخوانية مثل سيد قطب ومحمد الغزالي ويوسف القرضاوي. كذلك أفكار الجهاديين حول العلاقة بين الدولة والشريعة وواقعها وأبرز التحوّلات التي طرأت على أفكارها.
أزمة مفاهيم وتطبيقات
النقطة الأساسية الأولى التي يمكن أن نقرأ فيها الكتاب هو تصوّر الإسلاميين للدولة، وبناءً عليه نَتَفهّم موضع قضيتهم الكبرى “تطبيق الشريعة”، ومن أجل ذلك يخصص الكتاب الجزء الأبرز في قراءة بانورامية تحليلية بالتركيز على أفكار زعماء الإصلاح في العالم العربي إجمالاً مرورًا بالإحيائية الإسلامية وصولاً إلى الأصولية الإسلامية الرفضية أو الاحتجاجية “الجهادية” تجاه إشكاليات العلاقة بين الدين والدولة في الفكر السُنّي تحديدًا – لاختلاف الإشكاليات السنية عن الشيعية والتي يراها الباحث إشكالية قائمة بذاتها لم يتطرق إليها حيث تحتاج لمعالجة مختلفة أكثر توسعًا- وقصر البحث على بعض المفكرين دون غيرهم لأسباب أبرزها أنّهم الأغزر إنتاجًا والأكثر شهرة والأبعد تأثيرًا في أوساط الجمهور الإسلامي حيث يرى الباحث في ملاحظة نراها دقيقة – وغير مُشار إليها كثيرًا – أنّ أفكار الآخرين تلتقي في معظمها مع أفكارهم!.
يُشير الكاتب إلى وجود أزمة مفاهيم تتمثل في وجود التباسات تعتري مفاهيم “الدولة” و”الدين”، و”العلمانية”، و”الشريعة” ويُعيدها إلى أزمات الفكر العربي والإسلامي المعاصر وتصارع تياريه الرئيسين: الإصلاحي والإحيائي منذ الانفتاح على أوروبا. فقد كان للثورة الفرنسية ومبادئها أبلغ الأثر والتأثير في الشرقيين عند أول احتكاك حدث في أعقاب دخول الفرنسيين لمصر سواء في فترة وجود الحملة بعلمائها، أو من خلال البعثات التي بدأ يرسلها محمد علي إليها بعد ذلك. كان الهّم السياسي وإشكالية الدولة الشغل الأكبر لمفكري النهضة العرب والمسلمين في القرن التاسع باعتباره السبب الجوهري ولعلّه الرئيسي لتخلف البلاد العربية والإسلامية بحسب ما بدا لهم. وانصب مجهودهم الفكري والسياسي على التوفيق بين النظرية الإسلامية في الحكم من جهة، والتغييرات الكبرى التي كانت تستجد على واقع الحكم من جهة ثانية بهدف جعل الإسلام أكثر مُواءمة، وتَكيّفًا مع الواقع بمستجداته لإثبات عدم تعارض الإسلام مع العلم أو التقدم العلمي بإطلاق. ويضيف: “عمدت هذه الإصلاحية الإسلامية إلى الدفاع عن دولة العدل مُبشرة بنموذج الدولة الحديثة، لكنها انتقلت من الاكتفاء بالدعوة إلى الإصلاح إلى نقد السلطنة بعدما تبين لها أنّ الإصلاحات قد فشلت، وفشل الاستبداد، حيث بدأت الولايات العثمانية تسقط في أيدي الاحتلال لتكتمل صيغة الدعوة إلى الدولة الوطنية وتحرير المجال السياسي من الاستثمار الديني ثم نقد الاستبداد السياسي والدعوة إلى الشورى الدستورية كما كتب عبد الرحمن الكواكبي في (طبائع الاستبداد)”.
نازعت فكرة “الدولة” رؤيتان؛ الأولى حيث ذهب رواد الفكر العربي المعاصر إلى فهم الدولة بأنّها ذات اليد الطولى على كل شيء بالمجتمع، وقدم بعض العرب “العلمانية” كأنّها حتمية تاريخية دون النظر إلى سياقات انبعاثها، ومن الشطط نزوعهم إلى الربط بينها وبين الديمقراطية بحيث لا يمكن تصور وجود إحداهما دون الأخرى. في حين ينظر الإسلاميون إلى “الدولة” باعتبارها حارسة الدين، مُجادلين بأنّ الواجب أن يكون للدين دورٌ في إدارة الدولة، فالدولة هي الأساس والدين هو البناء وبدون أساس لا يكون البناء. كما قدم بعض المفكرين الإسلاميين تَفسيرًا للإسلام ضخَّموا فيه الشق السياسي على بقية مكونات البناء الإسلامي الروحي.
وكما حدث في النظرة إلى “الدولة” كانت الأزمة في طبيعة النظرة إلى “الشريعة” والتي أصبحت مفهومًا مطاطًا من حيث طبيعتها ودورها ومقاصدها. وهذا التحول يُعيده “زكريا” إلى التطور الحادث في مفهوم القانون في الدولة الحديثة ودوره ومكانته ووظيفته في التنظيم الاجتماعي والسياسي. ويوضح أكثر فيقول: أصبح التفاهم حول طبيعة القانون أو الخضوع لقانون واحد هو محور تكوين الأمة بالمعنى القومي، وأصبح القانون هو محور العمل السياسي لذا جَنح مُفكرو الإحيائية الإسلامية إلى تحويل الشريعة لقانون، بل حولوا الإسلام نفسه إلى ما يشبه المُدونة المادية للأحكام والنصوص التي يتركز شأنها على تنظيم حياة مجتمع ما من الناحية السياسية، مما أدى لتقليص عُمقه الروحي والديني، وغايتهم في ذلك تعبئه الجماهير لمآرب سياسية. في حين يرى آخرون أنّ الشريعة ليست قانونًا وإنّما هي أخلاق القانون وقيمه، فهي نظام اجتماعي أخلاقي ناجم عن رُؤية معينة للذات وللآخر وللعالم. لذا لابد التمييز بين الشريعة التي هي كتاب الله وإرادته وهي التي تتوجه إلى الانسان وبين القانون الذي هو تحويل هذه الإرادة إلى وسيلة للحكم على الأرض وأداة للدولة، ومن ثم إلى نظريات ومعارف وأحكام مدنية محددة.