● عاش المعلم جلال كشك عمره الفكري والصحفي… وتاريخه النضالي والحركي… وهو يستطيع أن “يدب” قلمه في عين “العفي” وقتما يريد. ذلك لأنه كان عمله خاصة من الرجال والمفكرين والسياسيين… وتجار السخرية بالجملة والقطاعي.
والده المرحوم الشيخ محمد علي كشك القاضي الشرعي هو أول من أصدر حكمًا شرعيًا بتكفير البهائيين في عشرينات القرن الماضي.
وجلال كشك هو أول من هتف للجمهورية عام 1951 قبل أن يعلنها الرئيس محمد نجيب بحوالي عام.
وكم كان شيخنا الجليل محمد الغزالي، ينصحنا بقراءة ثلاثة كتب بصفة دائمة…. هي:
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي “وفقه الزكاة” ليوسف القرضاوي، و”دخلت الخيل الأزهر” لجلال كشك.
Table of Contents
محمد جلال كشك.. وشرف المهنة
● أذكر وأنا طالب بالثانوي أنني كنت أقرأ مسرحيته المبهجة “شرف المهنة” التي عالج من خلالها معايير مهنة الصحافة وضوابطها وأخلاقياتها ، والعلاقة الملتبسة بين الصحافة والثورة… ومسح بالنفاق والمنافقين الأرض ، من خلال أحداث المسرحية… وحركة شخوصها ..
● أذكر أن صوتي كان يعلو بالضحك… والقهقهة وأنا أتابع “صابر البنهاوي” رئيس تحرير مجلة “أبو الهول” و”علي الطقطوقي” و”حسن المنياوي” المحررين بالمجلة، حتى كادت أمي تشك في توازني ، وهي تراني أضحك وحيدًا… فتتعوّذ حولي بصوت مسموع .. وهي لا تعلم أن طائفًا من المبهر جلال كشك ، يستطيع أن يفعل بقارئه العجب، ولا حرج .. فجلال كشك … هو جلال كشك والوسطاء يمتنعون..!!
● حتى أن الأديب الكبير “يحيى حقي” يقول عن هذه المسرحية: ” لعلها تكون المرجع الوحيد في التاريخ ، لهذه الفترة الهامة من حياتنا بعين بصيرة نفاذة صادقة، مؤمنة بوطنها، مخلصة له، فإنها ليست مجرد تاريخ بل استخلاص للعبرة التي تنفع على مر الأيام.
● وهذا الكتاب ينبغي أن يقرأه كل مواطن، فسيبصره بأشياء مذهلة كانت غائبة عنه”.
جلال كشك.. رحلة حياة
● ولد “حطيئة ” الصحافة السياسية المصرية ، محمد جلال كشك عام 1928 بقرية “المراغة” بمحافظة سوهاج ، لأب كان يعمل بالقضاء الشرعي، وأم من نفس العائلة … ذات حسب ونسب، وخلق ودين.
● تلقى تعليمه الأولي والثانوي بالقاهرة، بمدرسة “بمباقادن” بمنطقة الحلمية الجديدة ، بالدرب الأحمر.
● تخرج من كلية التجارة بجامعة القاهرة عام 1952 بقسم العلوم السياسية ، وكان قد انضم إلى الحزب الشيوعي المصري عام 1946 ، قبل أن يلتحق بالجامعة، واعتقل على إثر ذلك حيث أدى امتحان السنة النهائية من داخل معتقل “هايكستب” الذي دخله بتهمة التحريض على قتل الملك… حيث قاد مظاهرة من زملائه الشيوعيين وهتف ضد حافظ عفيفي رئيس الديوان الملكي كما هتفوا بالجمهورية وسقوط الملكية…. ولم يفرج عنه من هذا الاعتقال إلا بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952م.
● أخرج جلال كشك وهو طالب شاب كتابه “مصريون لا طوائف” ثم أتبعه بكتابه الذي أثار ذعرًا وقلقًا لدى دوائر الحكم حينئذ وهو كتاب ” الجبهة الشعبية” الذي ظل سرًا مكتومًا إلى أن كشفه المستشار الفقيه المؤرخ طارق البشري في كتابه “الحياة السياسية في مصر (45-1952)، حيث كان الاعتقاد السائد لدى الدوائر المختصة أن الكتاب صادر عن منظمة شيوعية تحمل نفس الاسم ، وعزز من ذلك الاعتقاد أن الكتاب كان يدرس داخل الخلايا الشيوعية السرية كمنهج دراسي خاص.. حتى أشار أخيرًا …. طارق البشري إلى أن صاحب الكتاب هو الباحث المتفرد “محمد جلال كشك” والذي اعتقل بسببه بتهمة التدبير لقلب نظام الحكم ولم تسقط عنه القضية إلا بعد ثورة يوليو 1952م.
محمد جلال كشك وتفكيك المانيفستو
● بدأ المرحوم الفارس جلال كشك عمله الصحفي والفكري مبكراً، حيث أصدر كتابين وهو ما يزال طالبًا بالجامعة ، كانا بمثابة طلقتين داويتين، وكان حينئذ مغموسًا حتى أذنيه في الشيوعية٠٠ منظمًا٠٠ جلابًا لشرها من كل مكان، مفكرًا ومفجرا “للمانيفستو”الشيوعي..
● بل كان من أنشط الخلايا السرية الشيوعية،!!
لكن القلم “الحفار” لجلال كشك ..قاده سريعًا من “درك” الشيوعيين، المتنمرين ، إلى درج المفكرين المتميزين..
فانتقل بكامل الوعي إلى ساحة الفكر الإسلامي ، بعد أن شرَح وشرّح الشيوعية فكرًا وتطبيقًا..
● ثم مرّ بعدها بمرحلة عدم اتزان… ولكنها كانت فترة كافية لالتقاطه الأنفاس وإعادة التوجه والتوجيه ، وتنقل من جرائد “الجمهور المصري” إلى “الجمهورية” إلى أن أبعد عنها بعد اعتقاله لمدة عامين ونصف ، حين استطاع أن يجاهر عسكر يوليو 1952 برجولة ووطنية ، وفهم وثقافة واستشراف ..
فما كان من عسكر يوليو إلى أن نقوله للعمل بمجلة “بناء الوطن” تحت الرئاسة المباشرة من الضابط (أمين شاكر) الذي “وزّ” عليه … حتى اعتقل جلال كشك لعدة أشهر، كانت بمثابة “كسر جناح ”
لكن جلال كشك… هو جلال كشك ..
فسرعان ماترك لهم “الجمل وما حمل” .. وذهب للعمل “بروز اليوسف” عام 1962 كمحرر للشئون العربية ، وظل يعيش هذا “الكبد” حتى خرج من مصر بعد الهزيمة النكراء في 5 يونيو 1967 ليعمل “بمجلةالحوادث” اللبنانية… وليتنفس بعضًا من هواء الحرية الغض الطري المنعش الفواح… ليستطيع عن بعد، دك هذه الحصون الناصرية المتورمة كذبًا، والتي تعمل للرجل أعظم مما تعمل للمشروع، أو الشيوعية المدعية على الأمة بالباطل.
وليفكك الماركسية تفكيك الخبير الذي خبر السر، وجاس خلال الديار … فتبّر ما علَت الماركسية تتبيرا،
ولم يستطع شيوعي أو ماركسي واحد في المنطقة العربية بأسرها ، أن يرفع وجهه في وجه جلال كشك ، فضلاً عن أن يرد عليه أو ينفي ما قال…
مع العمالقة
وإذا كان المودودي وأرنولد توينبي وجارودي وهوفمان وسيد قطب ومحمد حميد الله الحيدر ابادي والندوي وعبد الكريم زيدان والغزالي والقرضاوي وشريعتي وباقر الصدر وفتحي عثمان وإسماعيل الفاروقي ومحمد محمد حسين ومحمد قطب.. من أوائل من فكوا شفرة الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية… وفتشوا عن المكنون الغامض ، في عمق المشهد المحتدم بين الغرب والإسلام… وأظهروا في وقت مبكر من المعركة .. معابر النجاة، وجسور التواصل، ومرافئ الأمان…
فإن جلال كشك يقف ضمن فريق لا يقل أهمية ولا مرجعية من هذا الصف الأصولي العملاق ..
فكانت كوكبة أخرى يمثلها محمد المبارك والدواليبي وعبد الحليم أبو شقة وأنور الجندي وجلال كشك ومحمد عمارة ومصطفي محمود ومنير شفيق وفتحي عثمان وابو فهر وسعيد حوي وعبد الحليم خفاجي وبيجوفيتش .. قد خطوا بالفكرة خطوة أمامية، وخاضوا المعركة في مربعها الأمامي… حيث قاموا بحل لغز التعويذة، وأطاحوا بالطوطم الشيوعي، والصنم الماركسي الذي ظل قومه عليه عاكفين… فحرقوه .. ثم نسفوه في اليم نسفًا…
فردوا إلى الأمة ثقتها بنفسها وربها ومنهجها .. وأسسوا من حيث يعلمون .. لمشروعية الصحوة الإسلامية .. التي انتشلت الأمة من الخديعة الكبرى التي وقع فيها المغفلون .. وسقط في سرابها المرجفون…
وتحت غبار المعركة .. أخرج جلال كشك “54” كتابًا ومسرحية واحدة، غاية في السخرية هي (شرف المهنة)، وإن كنا نعلم أنه له ست مسرحيات أخرى مخطوطة.
ومن الملاحظ أن كل كتابات جلال كشك تطفح بالسخرية المرة والفكاهة الحارة … والمرارة الساخرة … فهو يذوّب فكرته أحيانًا في ماء الورد والسكر…. وأحيانًا في ماء الصبر والحنظل.. وفي كلٍ .. فإنه يهندس الفكرة… ويدبب لها سن قلمه…. ويدق جذورها في أرض البحث العلمي الرصين… ثم يطلقها في الفضاء البعيد… تتحدى الأعاصير والزعابيب .. وتكتسب في كل يوم أرضًا جديدة..
حتى أن أعداءه كان يرون أن اغتياله أهون من الرد عليه…. خاصة “هيكل” .. “كبير جورنالجية القوم”… الذي قلّبه جلال كشك على قدميه… كما يتنطط اللاعب الموهوب بالكرة الشراب على وش قدميه… حتى يمل الناس من الفرجة والاستمتاع ، خاصة في كتبه الفريدة.. “ثورة يوليو الأمريكية”، “الفضيحة…. هيكل يزيف التاريخ” و”الناصريون قادمون”.. ، أما كتبه “كلمتي للمغفلين” و”دخلت الخيل الأزهر”… و”إيلي كوهين من جديد”… فكان لها شأن آخر.
لم تكن تقف وراءه مؤسسة كالأهرام وراء هيكل.. والأخبار وراء مصطفى أمين.. ولكن النظام بأسره كان يترصده … ويتهدده.. ويتوعده فيغلق في وجهه كل أبواب مصر..
جلال كشك ورحلة الشقاء والعذاب
وبعد رحلة الشقاء والعذاب… والغربة والسجون، عاد جلال كشك في السنوات الأخيرة من عمره .. ليمتعنا بمقالاته العميقة الرشيقة في مجلة “أكتوبر”… حتى يكتب الله له هذه النهاية الشاهدة الشهيدة.. فلم يكن الرجل يعبأ بأمراضه المتوحشة ولا مظلمته الموحشة… فكنت تراه في كل معركة … صاحب القدح العلي .. حتى كان ما كان .. من “نصر حامد أبي زيد” وتزويره لأبحاثه العلمية… فناظره الفارس جلال كشك حتى إذا اشتد وطيس المعركة… فإذا بالرجل يصاب بأزمة قلبية حادة ، تفيض على إثرها روحه الطاهرة في 21 جمادى الآخرة 1414هـ، الموافق 12/5/1993.. ليتنفس أعداؤه الصعداء …. حيث كان المرحوم جلال كشك مثل “دكّاك الزلط والدقشوم” .. الذي يسوي بهم الأرض.. فلا ترى فيهم عوجًا ولا أمتًا….
وليهنأ جلال كشك بما قدم عند ربه من كلمة صافة ضافية .. وفكرة شافية كافية… تعصم من الزلل … وتعين على سواء السبيل…
شهيد الحـق
لجلال كشك عدة رؤى إصلاحية .. كان فيها رائدًا وقائدًا، بل كان في بعضها مغامرًا واستشهاديًا.. يلقى بنفسه وسط حقول الألغام…
فهو أول من هتف بالجمهورية عام 1951 في العهد الملكي… وهو أول من طالب بتأميم القناة وإلغاء الاحتكارات الأجنبية عام 1951م ، وهو الوحيد الذي كذب علي صبري، وكشف زيف الأرقام التي استند إليها في كتابه ” سنوات التحول الاشتراكي ” 1961 – 1966 .. وفور نشر مقال جلال كشك ، تم فصله من رئاسة مجلس إدارة جريدة الجمهورية ورئاسة تحريرها…
وهو الوحيد الذي أبرق إلى الرئيس الأمريكي “رونالد ريجان” في نوفمبر 1980 يلومه ويصحح له خطأه الجسيم ، الذي قال فيه لمجلة التايم الأمريكية : “إن المسلمين قد عادوا إلى الداء القديم، وهو الاعتقاد بأن طريقهم إلى الجنة هو قتل المسيحيين واليهود”…
فقال له جلال كشك : ” إن الحرب المقدسة التي دخلت التاريخ كرمز للتعصب ، هي الحرب الصليبية وليست الحرب المحمدية ولا الهلالية… فنحن لسنا الذين اخترعوا الحروب الدينية .. وليس ذنبنا أن المعتدين علينا وعلى بلادنا واستقلالنا من المسيحيين واليهود.. ولا جريمة اذا اعتقد المسلم الضحية أن الله يرضى عن الذين يدافعون عن استقلال بلادهم”.
وهو الوحيد الذي كشف عوار “هيكل” وفضحه وجعله يرهب اسمه حتى وهو مطارد خارج البلاد…
وهو الرقم الصعب الذي شهدت الشيوعية والشيوعيون العرب إفلاسهم نظريًا وتطبيقيًا على يديه…، حتى نشرت “البرافدا” السوفيتية ردًا بتوقيع “مايسكي” تقول فيه : إن استمرار جلال كشك في الصحافة المصرية يسيء إلى الاتحاد السوفيتي ، وذلك عقب نشره سلسلة مقالاته الشهيرة “خلافنا مع الشيوعية”… فنفى من الصحافة المصرية من 1964 إلى ما بعد 1967 .. محرومًا من كل شيء ، وهو الرجل الأشهر الذي وضع ثوار يوليو …. على المجمرة .. وفتح الستار عنهم ، وهم بملابسهم الداخلية… فظهرت حقيقة الأمور وانكشف المستور….
وجلال كشك من أوائل من حطموا “الطوطم” لويس عوض… وفضح نظراته التاريخية واعتبرها امتدادًا لمدرسة التدجين الاستعماري والعمالة التاريخية لتفسير التاريخ زورًا وبهتانًا.
وهو الذي جرد “نصر حامد أبو زيد” من ملابسه المسروقة .. وأصدر حكمًا بتجريسه علميًا…
ولقي ربه شهيد الحق والحقيقة في 5/12/1993 .. وهو يناظره عبر محطة التلفاز العربية الأمريكية بواشنطن… حول أشهر قضية نصب علمي مارسها باحث في العصر الحديث، قائلاً: القضية ليست في “التطليق”… إنما في “التزوير” والتلفيق.
واحتدمت المناقشة التي أظهر فيها “كشك” جريمة اختلاق الوقائع وتلفيق الأحداث التي تورط فيها “نصر أبو زيد”.. فأصيب كشك بأزمة قلبية جراء أمراض قديمة كان يعاني منها، ففاضت روحه إثر هذه الأزمة التي دهمته في 21 جمادى الآخرة ١٤١٣ه، ودفن بمصر بناء على وصيته….، كما أوصى بأن تدفن معه في قبره ثلاثة كتب هي: “السعوديون والحل الإسلامي”، و”دخلت الخيل الأزهر”، و”قيل الحمد لله”.
وإذا كانت القاعدة التقويمية تقول: إن الرجال مواقف، فقد كان جلال كشك .. كتيبة من الرجال تحمل شرف العشرات من المواقف….
وسلام عليه في الآخرين….
د. محمود خليل