مبدعونشخصيات علمية

وليم هارفي: مكتشف الدورة الدموية وأحد روّاد الطب الحديث

وُلد وليم هارفي في 1 أبريل 1578 في بلدة فولكستون بإنجلترا، في أسرة ميسورة الحال. التحق بمدرسة كينغز كانتر بيري، ثم انتقل إلى جامعة كامبريدج حيث درس الفنون الحرة. وبعدها، توجه إلى جامعة بادوفا في إيطاليا، والتي كانت من أبرز مراكز دراسة الطب في أوروبا في ذلك الوقت. هناك تتلمذ على يد الطبيب الشهير هيرونيموس فابريشيوس، الذي أثر فيه كثيرًا وزرع فيه حب البحث العلمي والدراسة التجريبية.

الوضع الطبي قبل اكتشافه

قبل اكتشاف هارفي لحقيقة الدورة الدموية، كانت النظريات الطبية السائدة مستندة إلى أفكار الطبيب الإغريقي جالينوس (جالين)، الذي عاش في القرن الثاني الميلادي. جالينوس كان يعتقد أن الدم يتكوّن في الكبد، ويتدفق عبر الأوردة ليغذي الجسم، بينما يُعتقد أن “الروح الحيوية” تتولد في القلب وتنتقل عبر الشرايين. لم يكن مفهومًا أن الدم يدور بشكل مستمر داخل الجسم، بل كان يُظن أنه يُستهلك ويُعاد إنتاجه باستمرار.

هذه النظرة التقليدية استمرت لأكثر من 1400 عام حتى جاء هارفي ليقلبها رأسًا على عقب.


وليم هارفي | أبحاثه واكتشاف الدورة الدموية

منذ عودته إلى إنجلترا، بدأ وليم هارفي في العمل كطبيب، وعيّن لاحقًا طبيبًا خاصًا للملك جيمس الأول ثم للملك تشارلز الأول. لكنه ظل منشغلًا بتجارب عملية حول القلب والأوعية الدموية.

في عام 1628 نشر كتابه الشهير “التحقيق التشريحي لحركة القلب والدم عند الحيوانات” (De Motu Cordis)، الذي عرض فيه نتائج تجاربه الدقيقة. أثبت هارفي أن:

  • القلب يعمل كمضخة تدفع الدم عبر الجسم.

  • الدم يسير في دورة مغلقة: من القلب إلى الشرايين، ثم إلى الشعيرات، ومنها إلى الأوردة ليعود إلى القلب.

  • كمية الدم التي يضخها القلب يوميًا كبيرة جدًا، وهو ما ينفي فكرة أنه يتجدد باستمرار في الكبد.

كان هذا الاكتشاف بمثابة ثورة طبية غيرت فهم الإنسان للجسم البشري، وأسست للطب الحديث المبني على التجريب والدليل العلمي.


منهجه العلمي

ما ميّز هارفي عن أسلافه هو اعتماده على التجارب العملية والملاحظة المباشرة بدلاً من الاكتفاء بالافتراضات النظرية. أجرى تجاربه على حيوانات مختلفة، بل وحتى على جثث بشرية عند توفرها. كما استخدم أساليب إبداعية مثل ربط أوعية دموية معينة لملاحظة اتجاه تدفق الدم، مما ساعده على التوصل إلى استنتاجاته الدقيقة.


ردود الفعل على اكتشافه

لم يُستقبل كتاب هارفي بالترحيب فورًا؛ بل قوبل بالكثير من الشك والرفض من الأطباء التقليديين الذين كانوا متشبثين بنظرية جالينوس. بل إن بعضهم اتهمه بالجنون. ومع ذلك، أثبت الزمن صحة اكتشافه، وأصبحت نظريته حجر الأساس لفهم الدورة الدموية.


وليم هارفي | إنجازاته الأخرى

إلى جانب اكتشاف الدورة الدموية، ساهم هارفي في مجالات أخرى:

  • كتب أبحاثًا عن تطور الأجنة عند الحيوانات، حيث لاحظ مراحل نموها بالتفصيل.

  • أسهم في تطوير منهجيات البحث العلمي في الطب، مشددًا على أهمية الملاحظة الدقيقة والتجربة.

  • كان له دور في تدريب العديد من الأطباء الشباب الذين تأثروا بأفكاره، فانتشرت مدرسته العلمية تدريجيًا.


حياته الشخصية

عرف هارفي بأنه رجل متواضع ومخلص لعلمه. تزوّج من ابنة طبيب ملكي، لكن لم يُرزق بأطفال. كان مولعًا بالقراءة والسفر، كما ارتبط بعلاقات قوية مع شخصيات بارزة في عصره مثل الملك تشارلز الأول.

ورغم أن معارضيه حاولوا التشكيك في سمعته، إلا أن مكانته العلمية بقيت ثابتة بفضل إنجازاته.


وفاته وإرثه العلمي

توفي وليم هارفي في 3 يونيو 1657 عن عمر ناهز 79 عامًا. وقد ترك خلفه إرثًا عظيمًا لا يقدر بثمن. فاليوم، يُعتبر أبو علم الدورة الدموية، والرائد الذي وضع الأساس لفهم كيفية عمل القلب والأوعية الدموية.

لقد غيّر هارفي طريقة التفكير الطبي، حيث أدخل مفهوم الدورة الدموية المستمرة الذي أصبح أساس دراسة القلب والأوعية الدموية، وممهدًا لتخصص أمراض القلب كما نعرفه اليوم.


أثره على الطب الحديث

لا يمكن المبالغة في تقدير أثر هارفي على الطب. فبفضل اكتشافه أصبح الأطباء قادرين على:

  • فهم كيفية عمل القلب كمضخة حيوية.

  • تفسير أمراض القلب والدورة الدموية بدقة أكبر.

  • تطوير تقنيات مثل عمليات القلب المفتوح، نقل الدم، وزراعة الأعضاء.

بكلمات أخرى، لولا هارفي لما كان الطب الحديث ليصل إلى مستواه الحالي.

الخلاصة
كان وليم هارفي عالمًا شجاعًا تحدى الموروثات الطبية التي استمرت لقرون، وأثبت من خلال تجاربه العلمية أن الدم يدور في الجسم عبر دورة مغلقة يقودها القلب. لقد كان اكتشافه ثورة حقيقية غيرت مسار الطب، وجعلته أحد أعظم الأطباء في التاريخ. واليوم، ما زال اسمه خالدًا في كل كتاب طبي وكل قاعة محاضرات تدرّس فيها الدورة الدموية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى