دليل للمنفى.. درب النجاح من خلال 35 درساً
يعيش العالم اليوم أحد مواسم الهجرة الكبرى في تاريخه الحديث. هذا ما تشير له مختلف الإحصائيات الصادرة عن الجهات والمؤسسات المختصّة.
وهناك نسبة كبيرة من هؤلاء المهاجرين قد غادروا بلدانهم قسراً إلى بلدان المنافي حيث يواجهون سلسلة طويلة من العقبات قبل تحقيق عمليّة اندماجهم، إلى هذه الدرجة أو تلك، في المجتمعات الجديدة التي تستقبلهم.
لكن «النجاح في المنفى» أمر ممكن. هذا ما يؤكّده ويشرحه فيليبور كوليك، الكاتب والناقد الأدبي البوسني – من البوسنة – الذي نال في عام 2014 جائزة «الإشعاع اللغوي والأدبي الفرنسي» عن مجمل أعماله. ذلك في كتاب يحمل عنوان «دليل للمنفى» مع العنوان الفرعي التالي: «كيفية النجاح في المنفى من خلال 35 درساً».
وكان فيليبور كوليك قد غادر بلاده عام 1992 بسبب نشوب الحرب الأهلية التي اندلعت في منطقة البلقان. وقصد فرنسا كـ «أرض للمنفى». وكانت تجربته الكبرى هي في مدينة «رين» في منطقة بروتانيا حيث يعيش حتى الآن.
ومنذ وصوله لم يتوقف أبدا عن الكتابة باللغة الصربية – الكرواتية أوّلاً وباللغة الفرنسية مباشرة اعتبارا من عام 2008. وفي جميع الحالات يكتب عن تجربة حياته منذ الطفولة حتى سنوات الشباب في يوغسلافيا السابقة ثمّ في فرنسا. وهو يقدّم هنا حكايته باعتباره «بطل»الحكاية التي يرويها كعمل روائي، إبداعي.
ومثل الغالبية العظمى من المهاجرين قسرا والمنفيين وجد مؤلف هذا الكتاب نفسه بعد وصوله إلى فرنسا في أحد دور استقبال اللاجئين إلى فرنسا لأسباب عديدة. وعاش لفترة من الزمن وسط مجموعة متنافرة من البشر تضمّ «عائلات إفريقية وجنوداً سابقين من روسيا وخليطاً من مختلف النماذج والمنابت».
وفي مثل ذلك الجو كان، كما يقول، في «معركة دائمة وقاسية مع الذكريات». ومحاطا بكل أشكال «القهر» التي تضخّمها «الغربة والوحدة». ولكنها بالمقابل تجربة تستحق التأمّل بالنسبة لأولئك الذين يقسرهم قدرهم للابتعاد عن مرابع طفولتهم وعن أحبّتهم.
ومما زاد في يأس المؤلف، كما يشير، أنه لم يكن يملك أي مبلغ من المال ولا يتحدّث اللغة الفرنسية وليس حوله أي صديق…إلخ. ويستدرك أنه كان يعرف ثلاث كلمات هي التالية «جان وبول وسارتر».
يكتب: «وصلت إلى مدينة رين ولم يكن في جعبتي سوى ثلاث كلمات هي جان وبول وسارتر. ووثائق خدمتي كجندي وخمسين ماركا ألمانيا وقلم حبر ناشف وحقيبة رياضية من صناعة يوغسلافية كان بداخلها مخطوط وبعض الجوارب وصابونة مشوّهة الشكل بحيث تشبه ضفدعة ميتة..».
ويروي أن معرفته باسم الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر تعود لاهتمامه ككاتب كان قد صدر له في بلاده عدّة روايات كانت قد حازت إحداها على جائزة أدبيّة هامّة. وكانت إحدى مخطوطاته قد غدت رمادا مثل بيته الذي حرقته الحرب. أمّا في فرنسا فكان «مجرّد لا شيء»، كما يشير..
ومما يكتبه المؤلف عمّا عرفه، ويعرفه أغلبية أولئك الذين يطلبون اللجوء في بلد مثل فرنسا، الكلمات التالية حول ما أثاره لديه مبنى طلب اللجوء في مدينة رين. نقرأ ما مفاده:«لقد أعاد لي ذلك المبنى المرمم حديثا ذكريات مدرستي الثانوية. ذلك ببابه الزجاجي العريض والممرات الطويلة، ومع فارق كبير هو أن الحجرات هنا ليست مكرّسة للطلبة ولكن لاستقبال اللاجئين.(…). إن بؤس العالم كلّه ضرب لنفسه موعدا هنا في رين بنهاية هذا الصيف 1992.»
ويضيف: «استقبلتني سيّدة تلبس نظّارتين سميكتين وتحدثت بهدوء وهي تتفحّصني بنظراتها الحادّة. وأفهمتني أنني سأفوز بغرفة منفردة مثل تلك المخصصة للعازبين بينما الحمّام والمطبخ فمشتركان مع آخرين. كما أفهمتني أنني سأتلقى دروسا باللغة الفرنسية خلال ثلاثة أيام أسبوعياً». أحسّ المعني بالغضب وقال للسيدة باللغة الإنكليزية: «أنا جامعي وكاتب وروائي». فأجابته:«لا أهميّة لذلك يا صغيري. فهنا ستبدأ حياة جديدة».
فهم المعنى ــ المؤلف أنه عليه التحلّي بأكبر قدر ممكن من التصميم والإرادة. واعتباراً من عام 2008 أصبح يكتب مباشرة باللغة الفرنسية. وهذا ما يعبّر عنه بالقول أنه «استعار هذه اللغة». يكتب:«لقد استأجرت لغة، هي اللغة الفرنسية. إنها ليست لغتي وليست ملكاً لي. ولكن كما هو الحال بالنسبة لبيت تستأجره ينتهي الأمر بالإحساس بحسن الإقامة فيه».
العمل يتركز في المحصّلة على رسم صورة المهاجرين والمنفيين حيث تمتزج الملامح بـ«الخوف المتأصّل والعميق» وبـ«العطش لمختلف عواطف الحنان الإنساني» وبأنه «مجرّد رقم في الإحصائيات»التي ما يهمّ فيها هي الأرقام وليس الأسماء أو الشخصيات. و«تلك الإحصائيات يرى فيها المؤلف الخطوة الأولى نحو النسيان الكامل».
ويعود المؤلف كثيراً أيضاً إلى الخطوات الأولى له في فرنسا كطالب للجوء. ويروي أنه وجد في استمارة طلب اللجوء السؤال التالي: «ما هو مشروعك في فرنسا». ويقول إنه أجاب عنه بكلمة واحدة هي«الغونكور». كان يقصد «جائزة الغونكور الأدبية»، الأكثر شهرة في فرنسا، بل وفي العالم الفرنكفوني برمّته.
بداية
في هذا الكتاب – الدليل يعود فيلبور كوليك إلى تجربة السنوات الأولى التي أمضاها منفياً في فرنسا. وهو يبدأ حكايته بوصوله إلى مدينة رين، حيث لم يكن يملك أي شيء بعد أن فرّ، عندما كان في الثلاثين من عمره، من الجيش البوسني الذي أمضى فيه خمس سنوات يصفها بـ«الجهنميّة» حيث كان العنف والقتل بمثابة خبز الحياة اليومية بجميع الاتجاهات بالنسبة لجميع المنخرطين في الحرب الأهلية.
المؤلف في سطور
فيليبور كوليك، كاتب وناقد أدبي وروائي من البوسنة، من مواليد عم 1964، فرّ من الجيش البوسني عند اندلاع الحرب الأهلية في منطقة البلقان في مطلع عقد التسعينات الماضي، ولجأ إلى فرنسا حيث يعيش حتى اليوم بمدينة رين، ونال عدّة جوائز أدبية.